26 ديسمبر 2009

والانقلاب حتى على المسيحية.. والرهبنة!!! ـ د. محمد عمارة

إذن.. فنخن ـ بعد هذه الإشارات إلى:
ـ مخطط الفتنة الطائفية.. وجذورها منذ مطلع العصر الحديث.. وفي ظل الغواية الاستعمارية..
ـ وبعض وقائع أحداث تلك الفتنة.. في طورها الذي صاحب قيام الإحياء اليهودي الصهيوني..
ـ والفكر العنصري المنظر لهذه الفتنة ـ
واجدون أنفسنا ـ بعد هذه الإشارات ـ أمام انقلاب، ليس على هوية بلادنا ـ الوطنية.. والقومية.. والحضارية ـ فحسب.. بل أمام انقلاب طال ـ كذلك ـ طبيعة المسيحية ذاتها، وطبيعة الرسالة التاريخية لكنيستها ـ كما عرفتها الدنيا وتعارفت عليها عبر التاريخ..
ولقد سبقت إشارتنا إلى دور مجلس الكنائس العالمي ـ الذي أقامته المخابرات المركزية الأمريكية ـ عقب الحرب العالمية الثانية ـ في نفس العام الذي أقيم فيه الكيان الصهيوني على أرض فلسطين ـ دوره في إحداث هذا الانقلاب في طبيعة نشاط الكنائس وآفاق رسالتها.. وكيف جعل لهذه الكنائس ـ في بلاد الجنوب.. وخارج المعسكر الإمبريالي الغربي ـ مهام دنيوية ـ سياسية والاجتماعية واقتصادية ـ ليستخدمها في تحقيق مقاصد أمريكا الإمبريالية في الحرب الباردة وفي السيطرة على العالم، ووراثة الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة..
فهذه الديان المسيحية، التي تدع ما لقيصر لقيصر، وتكتفي بما لله.. والتي جعلت رسالة كنيستها “خلاص الروح ومملكة السماء” ـ لأن مملكة المسيح ـ عليه السلام ـ كما جاء في الإنجيل ـ ليست في هذا العالم ـ .. هذه المسيحية قد انقلبت ـ في عرف هذا التيار الطائفي العنصري الانعزالي ـ إلى اغتصاب ما لقيصر.. وإلى جعل الكنيسة حزبًا سياسيًا، ودولة داخل الدولة ـ وأحيانًا فوق الدولة!.. ومتصادمة مع الدولة! ـ الأمر الذي أدى إلى المواجهات المتوترة بين هذه الكنيسة وبين الدولة، لأول مرة في تاريخ علاقة هذه الكنيسة بالدولة.
ولقد صدرت أحكام قضائية ـ من أرفع مستويات القضاء المصري ـ مجلس الدولة ـ تدين هذا الانقلاب الذي أحدثته هذه الفتنة الطائفية في رسالة الكنيسة ومسيحيتها.. فجاء في حيثيات الحكم بالقضية رقم 934 لسنة 36 قضائية ـ بتاريخ 12/4/1983ـ:
“.. وقد صور الطموح السياسي لقيادة الكنيسة أن تقيم الكنيسة من نفسها دولة داخل الدولة، تستأثر بأمور المسيحيين الدنيوية، وخرجوا بالكنيسة عن دورها السامي الذي حدده لها المسيح عليه السلام في قوله: ردوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله..
كما سعى رأس الكنيسة إلى إثارة شعور الأقباط لحشدهم حوله، واستغل ذلك في الضغط على سلطات الدولة..
واستعدى الرأي العام العالمي على الحكومة المصرية، وأضر بسمعة البلاد.. وليس من شك في أن هذه التصرفات كلها تنطوي على تحد لسلطة الدولة”!(1)
هكذا صدر حكم القضاء ـ وهو عنوان الحقيقة ـ بإدانة هذا الانقلاب الذي أحدثته الطائفية العنصرية الانعزالية في طبيعة المسيحية ورسالة كنيستها..
ـ ولقد تبع هذا الانقلاب ـ الذي سجلته حيثيات حكم مجلس الدولة ـ على رسالة الكنيسة ـ ومن ثم التي مثلت، دينيًا وتاريخيًا: “الموت عن هذا العالم”، حيث يغير الراهب اسمه، ويتخلى عن أهله وذويه وكل العلائق التي تربطه بالدنيا، ليستخلص روحه وجسده للتوحد مع المجاهدات الروحية، والفناء فيما وراء هذا العالم.. يصنع ذلك في دير أو مغارة ـ “قلاية ـ صومعة” ـ منقطعة الصلات بالدنيا وشواغلها..
حدث الانقلاب على هذه الطبيعة ـ الدينية.. التاريخية ـ المستقرة لمعنى “الرهبنة” ووظيفتها في المسيحية.. فتحولت الأديرة المصرية إلى مؤسسات إنتاج إقطاعية.. وتحول الرهبان إلى السعي ـ صباح مساء ـ للاستيلاء على الأراضي المجاورة للأديرة وضمها إلى إقطاعيات هذه الأديرة.. بل وخوض النزاعات المسلحة لتحقيق هذه المقاصد الإقطاعية!!..
ويكفي للتمثيل على هذا الانقلاب ـ في معنى الرهبنة ورسالتها ـ وفي وظيفة الرهبان ـ أن نشير إلى النزاع المسلح الذي تفجر في 29 مايو سنة 2008م بين رهبان “دير أبو فانا” ـ بملوي ـ محافظة المنيا ـ بصعيد مصر ـ وبين أهالي “قصر هور” بسبب الاستيلاء على المساحات الشاسعة من الأرض المحيطة بالدير.. وكيف أن الرهبان كانوا يذهبون فيقيمون “قلاية” ـ صومعة ـ على بعد أكثر من ثلاثة كيلومترات من الدير، ثم يعمدون ـ بعد ذلك ـ لضم “القلاية” والمساحات الفاصلة بينها وبين الدير إلى إقطاعية هذا الدير!!.. الأمر الذي فجر نزاعًا مسلحًا له ضحاياه.. وتحركت له مظاهرات أقباط المهجر، متحالفة مع الدوائر الصهيونية، ودوائر اليمين الديني الأمريكي، والمسيحية الصهيونية، وساعية لاستصدار قرار من الكونجرس الأمريكية بإدانة مصر، وفرض العقوبات الأمريكية عليها!!..
كل ذلك، دفاعًا عن الانقلاب الذي حدث في معنى الرهبنة ورسالتها، وفي وظيفة الرهبان، الذين تركوا مملكة السماء، وحمل بعضهم السلاح للاستيلاء على الأراضي وضمها إلى إقطاعيات الدير!..
وحتى يعرف القارئ ـ المسيحي قبل المسلم ـ عمق هذا الانقلاب الذي حدث للرهبنة، وفيها، وعليها، يكفي أن نقدم سطورًا نشرتها صحيفة “وطني” ـ الأرثوذكسية ـ عن رهبنة الراهب “أبو فانا” ـ صاحب الدير الذي تفجرت فيه أحداث مايو سنة 2008م ـ ليرى القارئ ـ المسيحي قبل المسلم ـ الفارق بين مسيحية ورهبنة الراهب “أبو فانا” وبين مسيحية ورهبنة الرهبان الذين فجروا هذه الأحداث في الدير الذي يحمل اسمه..
لقد تحدثت صحيفة “وطني” عن الراهب ـ القديس ـ “أبو فانا” (355 ـ 415م) وكيف:
“أضنى جسده بالصوم الكثير، وتدرج في صوم الانقطاع حتى صار يصوم في الشتاء يومين يومين، وفي الصيف كان يتناول القليل من الخبز والماء والبلح الجاف عشية كل يوم. وكان دائم الوقوف على رجليه حتى تورمت قدماه، والتصق جسده بعظمه من شدة النسك فصار مثل خشبة محروقة. وكان كلما غلبه النعاس ينام وهو يستند متكئًا بصدره على جدار أقامه خصيصًا لذلك، أو يجلس على الأرض ويستند إلى الحائط، أو يضع رأسه على درجة.
فظل هكذا ثمانية عشر عامًا حتى اعتراه المرض من شدة النسك، فأتاه السيد المسيح ليدعوه ليتم جهاده المثمر، ويكشف له يوم نياحته ـ (موته) ـ فأحضر تلاميذه، وأخبرهم، وأشار بعمل قداس، وظل واقفًا طوال القداس والدود يتساقط من قدميه.. ثم تنيح ـ (مات) ـ بسلام..
ودفنوه بإكرام عظيم في ديره الموجود بالجبل الغربي ـ قصر هور ـ ملوي..”(2)

***
هكذا كانت المسيحية، عبر تاريخها، وهكذا كانت “الرهبنة” والرهبانية والرهبان ـ عبر التاريخ ـ ..
وهكذا تم الانقلاب على كل ذلك، تحت قيادة تيار الطائفية العنصرية الانعزالية، في الواقع المعاصر الذي نعيش فيه!..
ولقد تمت كل هذه الانقلابات في ظل المخطط الإمبريالي الأمريكي لتفجير وتفتيت مصر ووطن العروبة وعالم الإسلام، من خلال اللعب “بورقة الأقليات”!.

ليست هناك تعليقات: