المشهد الأول:
قالت شيماء لابنتها: (لقد تأخرتِ كثيرًا عن المذاكرة يا أمال، والامتحانات شارفت على البداية)، فأجابتها أمال: (سوف أذاكر بدءًا من الشهر القادم).
المشهد الثاني:
خرجت هدى مع أسرتها لشراء أغراض المنزل، فقابلت محتاجًا يسأل الناس، فهمت بإخراج صدقة له، ولكنها حدثت نفسها سرًّا قائلة: (لا، ليس الآن، سأخرج الصدقة بعدما آخذ المصروف من الأسبوع القادم).
المشهد الثالث:
في جلسة بين فاطمة ووداد؛ كانا يتحدثان فيها سويًّا؛ فأذن المؤذن لصلاة العصر، فقالت فاطمة: (هيا بنا لنصلي)، فقالت وداد: (يا فاطمة، الوقت لايزال طويلًا، والمؤذن للتو قد فرغ من الأذان، فلنا ساعتان نصلي في أي وقت شئنا، فلنؤخر الصلاة قليلًا …).
في النهاية:
شيماء لم تبدأ المذاكرة إلا متأخرة، مما جعلها تترك بعض الفصول والأبواب بدون مذاكرة، نعم نجحت ولكن بتقدير مقبول.
أما عن هدى؛ فقد جاء الأسبوع التالي ولكنها نست أمر الصدقة فلم تُخرِج شيئًا.
ووداد وفاطمة تذكرتا صلاة العصر قبل المغرب بخمسة دقائق، وبالكاد أدركتا الصلاة.
عزيزتي؛ هذه هي سوف وأخواتها: (سوف، لا، ليس الآن، ما زال الوقت طويلًا، الأسبوع القادم، الشهر التالي، سوف أفعل كذا غدًا …إلخ).
وإني لأحذرك منها عزيزتي أيما تحذير، فكم من عبادة ضاعت بسبب سوف أصلي؟! وكم من ذنب طال بسبب سوف أتوب؟! وكم من علاقات أسرية تحطمت بسبب سوف أزور أبي؟! وكم من طالب رسب في امتحاناته بسبب سوف أذاكر؟! وكم من مريض تداعت حالته بسبب سوف أذهب إلى الطبيب؟!
فهي التي جعلت محمد الغزالي يتساءل في حيرة قائلًا: (أتدري كيف يُسرق عمر المرء منه؟ يذهل عن يومه في ارتقاب غده، ولا يزال كذلك حتى ينقضي أجله، ويديه صفر من أي خير) [جدد حياتك، محمد الغزالي، ص(27)].
وقد قيل لرجل من عبد القيس: أوصنا، فقال: (احذروا سوف)[اقتضاء العلم العمل، الخطيب البغدادي، ص(114)]، وقال آخر: (سوف جند من جند إبليس)[اقتضاء العلم العمل، الخطيب البغدادي، ص(114)].
ويقول ألن مكنزي كاشفًا مكمن الخلل الدافع إلى التسويف: (تسويف الأعمال الهامة نوع من العجز وهو وسيلة اللافعالية)[إدارة الوقت، ريتشارد وينوود، ص(103)].
لماذا نسوِّف؟!
أولًا ـ فسحة الوقت في المستقبل:
إن الشعور الذي ينتاب الشخص حال تسويفه هو أن فسحة الوقت ستكون أفضل في المستقبل، لكن في الحقيقة هل سيحمل المستقبل فسحة من الوقت أم سيحمل شواغله وعوائقه الخاصة؟
وما أروع كلام الحبيب صلى الله عليه وسلم وهو يعالج هذا المرض قائلًا: (هل تنتظرون إلا فقرًا مُنسيًّا، أو غنى مطغيًا، أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفندًا[مفندًا: أي موقعًا في الفند، وهو كلام المخرف]، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال فشر غائبًا يُنتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر؟!) [قال الترمذي: حسن غريب].
(وقد يخيل لبعضهم أن الأيام ستفرغ له في المستقبل من الشواغل، وتصفو له من المكدرات والعوائق، وأنه سيكون فيها أفرغ منه في الماضي أيام الشباب، ولكن الواقع المشاهد على العكس من هذا أيها الأخ العزيز، فأخبرك خبر من بلغ ذلك وعرفه: كلما كبرت سنك كبرت مسئولياتك، وزادت علاقاتك، وضاقت أوقاتك، ونقصت طاقاتك، فالوقت في الكبر أضيق، والجسم فيه أضعف، والصحة فيه أقل، والنشاط فيه أدنى، والواجبات والشواغل فيه أكثر وأشد، فبادر ساعات العمر وهي سانحة، ولا تتعلق بالغائب المجهول، لكل ظرف مملوء بشواغله وأعماله ومفاجآته)[قيمة الزمن عند العلماء، عبد الفتاح أبو غدة، ص(116-117)].
أدرك هذه الحقيقة عظماء تاريخنا الإسلامي، الذين سطروا التاريخ بأفعالهم وأخلاقهم؛ فهذا عمر بن عبد العزيز يُروى أنه لما قيل له وقد بدا عليه الإرهاق من كثرة العمل: أخِّر هذا إلى الغد، فقال: (لقد أعياني عمل يوم واحد، فكيف إذا اجتمع علي عمل يومين؟)[سيرة عمر بن عبد العزيز، ابن عبد الحكم، ص(55)].
وهذا المعنى ترجمه بقلم أديب الأدب العالمي شكسبير حينما قال: (ثلاث ساعات مبكرًا أفضل من دقيقة متأخرًا)[كيف تتحكم في مستقبلك، إلينا زوكر، ص(1)]، وقد حذا حذوه الأديب الإنجليزي توماس كارليل حين قال: (ليس علينا أن نتطلع إلى هدف يلوح لنا باهتًا من بعيد، وإنما علينا أن ننجز ما بين أيدينا من عمل واضح بين)[ديل كارنيجي، دع القلق وابدأ الحياة، ترجمة عبد المنعم الزيادي، ص(25)].
لا (إن أفضل الطرق للاستعداد للغد هي أن نركز كل ذكائنا وحماسنا في إنهاء عمل اليوم على أحسن ما يكون، وهذا هو الطريق الوحيد الذي نستعد به للغد)[ديل كارنيجي، دع القلق وابدأ الحياة، ترجمة عبد المنعم الزيادي، ص(25)].
ثانيًا ـ الأعمال البغيضة مدعاة للتسويف:
وهذا هو السبب الأساسي لتسويف الأعمال في أغلب الأحيان، حينما تشعرين بثقل حمل العمل، وأنه يجثم على أنفاسك، فيتهرب الإنسان من الأعمال الثقيلة الشاقة البغيضة إلى نفسه لا بمواجهتها ولكن بتأجيلها.
وهو بهذا الأسلوب يحذو حذو النعامة حين يأتيها الصياد، أتدرين أخيتي ماذا تفعل النعامة؟! قد يتبادر إلى ذهنك أنها تفر وتجري بسرعتها العالية، أو أنها تهاجمه، كلا، حينما يأتي الصياد ليقتنص من النعامة حياتها وتشعر بدنو خطره؛ تغمس رأسها في التراب؛ فتظن بكونها لا ترى الصياد أنه قد ذهب، وأن الخطر عنها قد زال، ولكن هيهات هيهات … إن الصياد لها لبالمرصاد.
يقول وليم جيمس ـ وهو المتصف بأنه أب علم النفس في أمريكا ـ بأن هناك ما يُسمى بمبدأ المتعة في العمل، وهو ببساطة أن سلوك الإنسان يتأثر إلى حدٍّ بعيد بما هو مريح وممتع له، فيميل دومًا إلى فعل الأمور المحببة والممتعة له، ويحاول جاهدًا التهرب من الأعمال البغيضة وغير الممتعة له، لكن بينما يكون العمل بغيضًا على النفس؛ نجده في كثير من الأحيان غاية في الأهمية، لذلك إن ما نسوفه في غالب الأحيان قد يكون أهم ما لدينا من الأعمال، وذلك لكونها بغيضة على النفس)[إدارة الوقت، ريتشارد وينوود، ص(106)].
ثالثًا ـ طول الأمل يورث التسويف:
وهو استشعار طول البقاء في الدنيا، وهو يتغلب على القلب فينسى المرء أنه مهدد بالموت في كل لحظة، وهو من أخطر وأضر الأمراض على الإنسان، حيث يواجه المرء وقته ببناء الأماني والأحلام المستقبلية، والأماني لا تبني مجدًا، ولا تحقق أملًا.
وبروعة البيان النبوي وضح لنا الحبيب صلى الله عليه وسلم كيف أن الإنسان له آمال وطموحات طويلة بعيدة وكيف أن أجله يحوطه من شتى الجوانب، والأمراض والأعراض تنهش من عمره، وهو ما زال يؤمل ويتمنى حتى يفجؤه أجله.
حفظ لنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا الحديث ورواه فقال: (خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًّا، ثم قال: (هذا سبيل الله)، ثم خط خطوطًا عن يمينه وعن شماله، ثم قال: (هذه سبل [قال يزيد] متفرقة، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه)، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153][حسنه الألباني].
قولي وداعًا لسوف وأخواتها
الخطوة الأولى ـ استخدمي الخط الأحمر:
أسلوب الخط الأحمر، هو ببساطة أن تحددي لكل عمل خطًّا زمنيًّا نهائيًّا لا يمكن أن يتعداه، فهذا يجعلك مقيدة بوقت معين تنجزين فيه أعمالك.
لذا؛ فقومي بمعاهدة نفسك: (سأنتهي من فعل هذا الساعة الفلانية إن شاء الله)، أو (سأكون منتهية من هذا بعد 5 أيام إن شاء الله)، فحينما تحددين موعدًا نهائيًّا للقيام بمسئولية ما قد تؤجلينه إلى فترة وجيزة ثم تقومي به قبل وصول ذلك الموعد.
الخطوة الثانية ـ الصعب أولًا:
فعندما نبدأ نهارنا نكون في أعلى مراتب الطاقة، وحينذاك قد يسهل القيام بهذه المهام غير المحببة للنفس، ثم إنه بعد الانتهاء منها نقوم بالأمور الأخرى السهلة على أنفسنا، وذلك عند ضعف النشاط حينما يتقدم الوقت في النهار.
فابدأي بالأعمال الصعبة والشاقة، أو تلك الأعمال التي قد تكون غير محببة إليكِ، فإذا فرغت منها في أوقات نشاطكِ استمتعت ببقية الأعمال الأخرى.
الخطوة الثالثة ـ تفتيت الأعمال الكبيرة:
أسلوب ممتاز هو تفتيت الأعمال، فحينما تقفين أمام العمل الضخم ستشعري حياله بالعجز والصعوبة، حينها، قسمي ذلك العمل الكبير إلى مرحليات وخطوات صغيرة، ستجدين أن نظرتك للعمل قد تحسنت وأن طاقتك قد ارتفعت نحو الإنجاز والإتمام.
يقول هنري فورد: (لا شيء صعب المنال إذا جُزِّئ إلى أعمال صغيرة)، ويقول مارك توين: (إن سر التقدم يكمن في الابتداء بالعمل، وإن سر الابتداء بالعمل المعقد يكمن في تجزئته إلى مهام صغيرة سهلة، ثم البدء بأول تلك المهام)[الحفر، مارك توين، ص(14)].
الخطوة الرابعة ـ ابدأي الآن … هيا:
هناك قاعدة تقول أن الإنسان كلما سوَّف العمل كلما شعر بعجزه تجاه إتمامه، وهكذا دواليك، فبادري فورًا بإنجاز الأعمال حتى لا تتكون هذه النفسية المستصعبة.
فطالما يؤجل هذا العمل للمستقبل طالما يصعب القيام به، ويضخم في ذهن الفرد مع كونه قد يكون بسيطًا وسهلًا، ويسبب مع غيره قلقًا نفسيًّا لتراكم الأعمال واحدة فوق الأخرى بسبب التسويف، وبمجرد البدء في العمل السموف سيظهر مباشرة حجمه الطبيعي غير المتأثر بالحالة النفسية هذه.
المراجع:
1. إدارة الوقت من المنظور الإسلامي والإداري، خالد الجريسي.
2. اقتضاء العلم العمل، الخطيب البغدادي.
3. جدد حياتك، محمد الغزالي.
4. إدارة الوقت، ريتشارد وينوود.
5. قيمة الزمن عند العلماء، عبد الفتاح أبو غدة.
6. سيرة عمر بن عبد العزيز، ابن عبد الحكم.
7. كيف تتحكم في مستقبلك، إلينا زوكر.
8. دع القلق وابدأ الحياة، ديل كارنيجي.
9. الحفر، مارك توين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق