30 ديسمبر 2009
محنة العطش.. ونظرية المؤامرة!! ـ د . حلمي محمد القاعود
تبيع الحكومة المصرية كل شيء في مصر إرضاءً للسادة أصحاب صندوق النقد الدولي، وتشجيعًا للسادة رجال القروض الذين يقومون بعمل مشروعات هامشية وثانوية وغير مفيدة للشعب، ثم يهربون إلى الخارج بمعظم ما أخذوه ونهبوه، أو يُهَيمِنُون على المشروعات الأساسية والأولية التي يحتاجها الناس، فَيَحتكرُونها، ويبيعونها بأسعارٍ فوق طاقة العامة، ويحصدون من ورائها أرباحًا فاحشةً حرامًا، تذهب مع غيرها إلى بنوك الغرب الاستعماري معبود السلطة وسيِّدها المُقدَّس!
الشيء الذي لم يبيعوه حتى الآن هو ماء النيل، الذي لوَّثه رجال القروض وصبيانهم، ولكنَّهم أعلنوا مؤخرًا عن بيعه للشرب والري باسم حق الانتفاع؛ من خلال أسعارٍ لا يعلم إلا الله إلى أي مدى ستصل، أمَّا الشيءُ الثاني الذي لم يبيعوه حتى الآن فهو أبواق الدعاية (صحافة، إذاعة، تلفزة، هيئة استعلامات، وزارة ثقافة، أحزاب بير سلم).. إلخ.
وأعتقدُ أن هذه الأبواق مع ما تَستَنْزفهُ من مليارات الشعب المقهور، لن تُباع ولن تَمسسها يد بسوءٍ، حتى لو كانت خاسرةً بالثلث، ويقبض رؤساؤها ملايين الجنيهات شهريًّا، فهم على كل حالٍ يُدافعون عن النظام البوليسي الفاشي، ولو كان دفاعًا متهافِتًا، من عيِّنة: طَشّة الملوخية، ولحم البَعرُور، وتَبُّولة لبنان، فضلاً عن أزهى عصور الديمقراطية!!
مِحنَةُ العطش التي ظهرت معالمها وأعراضها مؤخرًا بعد قيام "أهل البُرُلُّس" بقطع الطريق الدولي واحتجاز المسافرين قرابة نصف يوم، ونقلت أجهزة الإعلام العالمية صراع الجراكن والجرادل والصفائح بحثًا عن مياه الشرب، بدلاً من مياه المصارف والمجاري والمستنقعات الآسِنة!! لم تتحرك نخوة المُتسلطين على البلاد والعباد كي يجدوا حلاًّ كريمًا لمواطنيهم المفترضين، أورعاياهم المفروضين، وللأسف كان تفسير بعض المسئولين للمأساة التي أدْمَت قلوب الشعب كله بأن مِحْنَة العطش مجرد "مؤامرة!!".
أية مؤامرة يا من تَخرّجت من مصانع المؤامرات والتلفيقات وأجهزة التنصت والتلصص على عباد الله، الذين يرفضون الاستبداد والفساد والقهرَ والكبت ومُصادرة الحريات، وكرامة الإنسان المصري؟!
أية مؤامرة يا خبير المؤامرات؟! ولماذا سمحت لهذه المؤامرة أن تَحدُث وتدفع آلاف البشر إلى قطع الطريق الدولي، ليشربوا قدحًا من الماء النظيف مثل بقية خلق الله في الصحراوات التي لا يوجد بها نيلٌ ولا أمطار ولا آبار؟!
إن خبير المؤامرات الذي كان منوطًا به- لإثبات ولائه وإخلاصه- تقديم القضايا المُلَفَّقة التي يُتهم أفرادها بالتهمة التقليدية "قلب نظام الدولة.." عن طريق مجموعة أو مجموعات من الشباب البسيط لا يملكون حِيلةً ولا يهتدون سبيلاً، اللهم إلا الاحتجاج والغضب، والاعتصام بالدين الحنيف في قلب العواصف التي يصنعها الاستبداد والقهر.
هل يمكن لمثل هؤلاء أن يقلبوا نظامًا مُدجَّجًا بمئات الألوف من أفراد الدفاع والأمن وأحدث أجهزة القمع والسيطرة؟!
والسؤال هو: ماذا يقصد المتآمرون بِتَعطِيش النَّاس في محافظة خبير المؤامرات، أو في بقية أرجاء مصر؟ وما طبيعة هذا التَعطِيش؟ هل شَربوا الماء النظيف وخزَّنوه في بطونهم وأمعائهم حتى لا يجري ولا يتحرك في شبكة المياه المتهالكة ومواسيرها التالفة وأحواضها الفاسدة؟!
لا أدري كيف يُخَزِّن المتآمرون المياه النظيفة ويمنعونها عن الناس في ظل خبرة أمنية طويلة يتمتع بها خبير المؤامرات العريق، الذي يعرفُ دَبَّة النَّملة في محافظته وخارجها، عن طريق عيونه المادية والبشرية؟!
من المؤكد أن خبير المؤامرات- إذا كان أمر المؤامرة صحيحًا- لم يُصرِّح بكل ما لديه عن المؤامرات التي تسبَّبَت في مِحنة العطش التي سارت بذكرها الرّكبان.. وواضح أن لديه أسرارًا لا نعرفها، وأعتقد أن من حق الشعب أن يعرفها، فرُبَّما تكون متعلقةً بالأمن القومي، أو يكون هناك تدخل من دولٍ أجنبية معادية لقتل الشعب المصري وسحقه عطشًا، بدلاً من استخدام القنابل النووية أو الكيماوية أو العنقودية أو الفوسفورية أو الذكية!
لا شك أن خبير المؤامرات كان يطمح إلى منصبٍ وزاري رشحته له التَّكهُّنات الصحفية عند التعديلات الوزارية السابقة، ولكنه لم يُصبْه الدور.. فهل هذا هو سبب إصراره على وجود مؤامرة وراء تعطيش الأهالي في محافظته؟!
إن السلطة البوليسية الفاشيِّة التي تُهدر أموال الشعب البائس في الإنفاق على الأبواق المأجورة، والترويج لحملات منع ختان الإناث ومؤتمرات المرأة التي يوحي بها الغرب الصليبي الاستعماري، وإقراض رجال النَّصب والنَّهب والفساد والإفساد.. تستطيع أن تُطهِّر النيل من التلوث الذي يصنعه الفاسدون المفسدون، وتستطيع أن تُغيِّر شبكات المياه المُتهالكة والمواسير التَّالفة والأحواض غير الصالحة.. وتستطيع أن تترفَّق في ثمن الفواتير التي يدفعها المواطن المقهور، ويستمتع بعائدها أساطين الفساد في شركات المياه، ممن يَحتَمون بالحيتان الكبيرة، لدرجة أن أي رئيس شركة مياه في إحدى المحافظات يقبض آخر كل شهر- كما يُقال- ربع مليون جنيه!! بل إن العامل العادي في أي شركة مياه صار مرتبه وحوافزه يفوق مرتب أستاذ الجامعة الذي يُنفق على مظهره وبحوثه وأسرته، بل إن مكافأة نهاية الخدمة لهذا العامل تفوق مكافأة أي أستاذ جامعي قضى سنوات عمره في البحث والدراسة، حتى ضاع بصره بين الأوراق والمخطوطات والمعامل وشبكة المعلومات (الإنترنت)!
الدولة التي تهتم بمواطنيها فعلاً- وليس قولاً أو دعايةً- تستطيع أن تفعل الكثير حين ترى أن وفاة طفلة اسمها "بُدور" بسب جرعة بنج زائدة أثناء عملية ختان أمرٌ ثانوي وهامشي، بجوار موت الآلاف يوميًّا بسبب المياه الملوثة المخلوطة بمياه الصرف، أو العطش الذي يُهلك الزرع والنَّسل، ويجعل "الجركن" عنوانَ المرحلة، أقصد أزهى عصور الديمقراطية!!
واضحٌ أن العالم كله- باستثناء "زيمبابوي"- ينطلق إلى الأمام، أمَّا مصر الغالية فقدَرها أن تبقى في غرفة الإنعاش، لا تموت ولا تحيا، تظلُّ معلّقةً برقاب الفاسدين المفسدين، ينهبونها بلا هوادة، ويستذِلُّونها بلا رحمة، ولا يتردَّدون في استخدام كل ما هو معادٍ للإنسانية والكرامة والأخلاق والعقائد ضد وجودها ومستقبلها.
وويلٌ لمن يجأر بالشكوى أو يُعبِّر عن الغضب، طالما كانت هذه الشكوى أو ذلك الغضب مؤثرًا على "الطبقة المقدسة" التي تُسيِّر البلاد وفق هواها وإرادتها ومشيئتها..
وبعدئذٍ فعلى كل مَن يعترض أن يواجَه بأنه متآمرٌ أو شريك في المؤامرة، وأنه عميلٌ للقاعدة وبن لادن والقمصان الحمر والزُّرق والتوربيني في طنطا، ومنظمات الإرهاب الدولية، بدءًا من اليابان حتى الولايات المتحدة، يستوي في ذلك المطالبة بالحرية والمطالبة بكوب الماء النظيف، وإنا لله وإنا إليه راجعون!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
رسالة أحدث
رسالة أقدم
الصفحة الرئيسية
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق