03 يونيو 2010

أسئلة الانكسار والضياع – فهمي هويدي


هل صحيح أن الجزائر صارت أبعد عنا، في حين أصبحت إسرائيل أقرب إلينا؟..
أدري أن السؤال ما كان ينبغي له أن يرد على البال أصلا، حيث يفترض أن تكون إجابته محسومة سلفا، لكنه بات واردا في زمن الانكسار، وغدا تجاهله نوعا من دفن الرؤوس في الرمال.

طرح السؤال له خلفيته التي تبرره. ذلك أن الصحف المصرية كانت قد نشرت كلاما للاعب الأهلي والمنتخب الوطني محمد أبوتريكة، أبدى فيها استعدادا وترحيبا بالسفر إلى الجزائر ومشاركة شعبها احتفاله بالتأهل لمونديال جنوب أفريقيا.

وحسبما ذكرت صحيفة «الدستور» (في 16 مايو الجاري) فإن أبوتريكة في توضيحه لموقفه قال إن هذا هو الوقت المناسب لإزالة الاحتقان بين الشعبين، على خلفية الأحداث التي خلفتها المباراة الشهيرة.
وأضاف أنه ليس من المنطقي السكوت عن الجفاء الذي حدث جراء تلك المباراة، لأن ما بين مصر والجزائر أكبر من أي خلاف بسبب مباراة في كرة القدم، خاصة أن الموضوع أخذ أكبر من حجمه،
كما أن مطالبة كل طرف للآخر بالاعتذار أمر غير مقبول، لأن ما بين الإخوة من روابط في الدين والدم أكبر من أي اعتذار، وخيرهما من يبدأ بالسلام.

هذا الكلام الرصين في الخبر المنشور استُقبل بغضب شديد من جانب أعضاء الجهاز الفني للمنتخب الوطني، وكانت الحجة في ذلك أن أبوتريكة كان أحد شهود العيان لما حدث في السودان وفي أنجولا، كما أنه على علم بالتصريحات المسيئة التي صدرت عن لاعبي المنتخب الجزائري وتناقلتها وسائل الإعلام، واستهدفت المدير الفني للمنتخب المصري.
فهمنا في الكلام المنشور أن مدير المنتخب أغضبته تصريحات أبوتريكة، وكذلك المدرب العام للمنتخب، الذي قال إن طبيعة العلاقات الطيبة القائمة بين الجهاز الفني واللاعبين تفرض على كل واحد من الأخيرين أن يرجع إلى الجهاز للحفاظ على صورته ووحدته قبل الإقدام على خطوة من ذلك القبيل تمس المنتخب الوطني ككل،
مضيفا أن كلام أبوتريكة عبر عن وجهة نظره الشخصية، باعتباره لاعبا في صفوف النادي الأهلي، قبل أن يكون لاعبا في المنتخب الوطني.

المشهد إذا صحّت وقائعه يضعنا أمام مفارقتين،
الأولى أن أبوتريكة تبنى موقفا أرقى وأكثر مسؤولية مما عبر عنه الجهاز الفني، فقد تصرّف اللاعب باعتباره مواطنا عربيا سويا في مصر الكبيرة التي تحتوي الأشقاء وترتفع لأجلهم فوق الجراح،
أما مسؤولو الجهاز الفني فقد تصرفوا كأعضاء في قبيلة منكفئة على مراراتها ولا يعنيها إلا الثأر لما أصابها.
المفارقة الثانية والأهم أن رئيس الجهاز الفني الذي غضب بشدة من ترحيب أبوتريكة بالذهاب إلى الجزائر لمشاركة الأشقاء هناك فرحتهم، هو ذاته الذي وافق على سفر المنتخب المصري إلى رام الله، لكي يلعب مع نظيره الفلسطيني في ظل الاحتلال الإسرائيلي وبرعاية من الأعداء.
صحيح أن المباراة أُجّلت لكن الفكرة لم تُلغَ، لأن موعدا جديدا تحدد لها. ومع ذلك فإن المفارقة تثير السؤال الذي ألقيته في بداية الكلام، حول ابتعادنا عن الجزائر واقترابنا من إسرائيل.

إذا دققنا في المشهد، فسنجد أن المفارقة ليست مقصورة على الجهاز الفني للمنتخب، ولكنها انعكاس لمدى التشوّه الذي أصاب الإدراك في بعض الدوائر بمصر. وهو التشوه الذي أسهمت فيه مواقف سياسية عدة أثارت قدرا غير قليل من الحيرة واللغط،
من ذلك اهتمام مصر بإقامة السور الفولاذي الذي يحكم الحصار حول غزة ويطمئن إسرائيل ويؤمنها بأكثر من اهتمامها ببناء بيوت ضحايا السيول في سيناء أو توفير احتياجات المحاصرين في القطاع.

إن أسئلة زمن الانكسار كثيرة، لكن أخطرها ذلك الذي لا يميز بين العدو وبين الصديق أو الشقيق، لأنه يعبر عن التلازم بين الانكسار والضياع.

مبدعون مسكوت عليهم – فهمي هويدي


حينما سدت الطواويس الأفق، فإننا لم نر مثابرة النمل ولا إبداعاته، تماما كما ان احباطات السلطة حجبت عنا اشراقات المجتمع.

(1)اتحدث عن الحراك الصامت الذي لم يتوقف في عمق المجتمع المصري.لا اقصد الحراك السياسي الذي يناطح السلطة ويدعو الى التغيير (رغم ان للسياسات طواويسها، ايضا)، لكني اتحدث عن اناس لم ينتظروا شيئا من السلطة ومارسوا بأنفسهم عملية التغيير في الواقع فيما قدروا عليه.
لم يكترثوا بالطوارئ التي استهدفت تشديد القبضة على المجتمع واطلاق يد السلطة لتتحكم في مصيره وتعبث به.لكنهم من جانبهم بادروا الى اعلان «طوارئ» من نوع آخر، لهدف أشرف وأنبل.
ذلك انهم استنهضوا همتهم واختاروا مفاصلة أهل الاهواء والاضواء، وانصرفوا الى صناعة احلامهم بأيديهم.لم ينتظروا خبراً في صحف الصباح، ولا صورة على شاشة التلفزيون، ولا شيئا من جوائز الدولة وعطاياها التي تتقاسمها شلل المنتفعين والمهللين.
اتحدث عن اولئك النفر من الشرفاء المجهولين، الذين اختاروا ان يعيشوا مع الفقراء ويأخذوا بأيديهم، تاركين طواويس المدينة يسبحون في اضوائها فرحين بما أوتوا.اولئك الذين ظلوا مهجوسين بالغرس والزرع دون ان ينتظروا من أحد جزاء ولا شكورا.تركوا للطواويس التيه والمجد، وقعدوا بعيدا في الظل ينسجون الحلم ويبنون في هدوء، متخذين من مثابرة النمل وتواضعه نموذجا ومثلا اعلا.
(2)في صنعاء سمعت لاول مرة اسم الدكتور محمد غنيم ومركز الكلى الذي اقامه في مدينة المنصورة.شعرت بالخجل والاعتزاز عندما حدثني عنهما بانبهار شديد صديق كان شقيقا لاحد مرضاه.اذ لم يخطر على بالي ان يكون في مصر صرح طبي بالتميز الذي سمعت به.

وطوال السنوات العشر الاخيرة ظللت اتابع اداء الرجل الذي وقف وراء ذلك العمل الكبير.وكان اكثر ما قدرته فيه، فضلا عن مكانته العلمية الرفيعة، عزوفه عن الاضواء وحرصه على ان يؤدي رسالته الجليلة في صمت.
ولا اعرف كيف قاوم ذلك العالِم الزاهد فتنة الشهرة والثراء التي استسلم لها ولهث وراءها غيره، وكيف انه قرر ان يقيم صرحه الطبي في قلب الدلتا بعيدا عن جاذبية القاهرة واغراءاتها.

كذلك سمعت في الفترة ذاتها باسم «لجنة الاغاثة» في نقابة الاطباء، مرة في السودان واخرى في البوسنة وثالثة في اذربيجان.وعلى الرغم من ان اسمها ليس مألوفا في مصر، سواء لان القائمين عليها آثروا اثبات الحضور في ارض الواقع باكثر من حضورهم في وسائل الاعلام، او لان اكثر نشاطها موجه الى الخارج، فانني وجدت في اداء تلك اللجنة نموذجا آخر للذين نذروا انفسهم للتفاني في اغاثة الفقراء والملهوفين وتوظيف المعرفة في الخدمة المباشرة للناس.
اما الذي فعله الدكتور مجدي يعقوب فقد كان مدهشا حقا.اذ فاجأنا ذلك الجراح النابه الذي هاجر من مصر وذاع صيته في انجلترا، حتى منحته الملكة لقب «سير»، بانه قرر اقامة مركز لجراحة القلب في اقصى صعيد مصر.وكأنه حين اختار اسوان فانه اراد ان يعمل في ابعد نقطة عن اضواء القاهرة، وان يعطي لغيره درساً عملياً في الوفاء والمسؤلية.
ان بعضا من هؤلاء النابهين المهاجرين يأتون الى مصر للسياحة حينا، ولاعطائنا النصائح والمواعظ حينا اخر، وللظهور في برامج التلفزيون وحضور الحفلات والمنتديات في حين ثالثة.
لكن الدكتور مجدي يعقوب عزف عن كل ذلك.وبدا كأنه نسيج وحده.فلم يكتف باقامة الصرح الطبي، فحسب، ولكن النموذج النبيل الذي قدمه، شجع آخرين من العلماء المصريين المهاجرين على الانضمام اليه، والاسهام فيما يقدمه المركز من خدمات.
علمت ان المركز يجري 600 عملية قلب مفتوح بالمجان سنوياً.منها 300 عملية للاطفال (لاحظ ان العملية في الظروف العادية تتكلف عدة الوف من الجنيهات).ذلك بالاضافة الى دوره في البحوث والتدريس وتقديم الخدمات الصحية المتميزة لمرضى القلب في مصر والدول العربية والافريقية.
اذ خلال الاشهر الماضية اجرى المركز 240 عملية جراحية مجانية، 50%منها للاطفال من مختلف محافظات مصر، وبعض الدول الاخرى.علمت ايضا ان المركز استضاف فريقا طبيا مصريا- كنديا، اجرى خبراؤه 70 عملية جراحية.ولايزال يؤدي رسالته النبيلة قانعا بالصمت وراضيا بالظل.
(3)في الاسبوع الماضي عادت الابتسامات الى وجوه اهالي قرية كفر العرب بمحافظة دمياط، التي كان الحزن قد خيم عليها خلال السنوات الاخيرة، بعدما ضاقت عليهم ابواب الرزق، وبدا كان الدنيا اسودت في وجوههم.
ذلك ان اهالي القرية التي اشتهرت بتربية الماشية وتصنيع الاجبان ادركوا ان اسعار الاعلاف زادت بحيث تجاوزت حدود احتمالهم.فما كان من المربيين الا ان اتجهوا الى التخلص من قطعان الماشية بالذبح.وادى ذلك الى اغلاق نصف مصانع منتجات الالبان في القرية.
لكن ازمتهم بدات في الحل بعدما نجح بعض الباحثين في تصنيع علف جديد للماشية بجودة عالية، من البواقي الزراعية في القرية التي كانت تحرق او تُلقى كمهملات في كل موسم.
هذا الجهد وراءه قصة غريبة ومدهشة ايضا، ابطالها مجموعة من الباحثين المغمورين الذين اختاروا منذ سنوات ان يحاربوا الفقر في معاقله، وبايدي الفقراء انفسهم، فشمروا عن سواعدهم واستخدموا معارفهم العملية وخبراتهم لحفر مسار جديد للتفكير والتطبيق، وبدأوا رحتلهم منذ نحو عشرين عاما.صحيح انهم لم يغيروا شيئا في اوضاع المجتمع المصري، لكنهم زرعوا «فسائل» للامل في بعض انحاء مصر، والتزموا بنهج النمل في التحرك والبناء.
الفكرة المحورية في مشروعهم كالتالي:
ان مصر بلد زراعي في الاساس، وريفها هو الاكثر معاناة من الفقر والتخلف والبطالة، والزراعة لها مخلفاتها التي تهمل وتحرق وتتحول الى نقمة احياناً، على الرغم من انها تشكل ثروة لمن يعرف قيمتها.ولانهم يعرفون جيدا قيمة تلك الثروة، فقد اتجهوا الى تصنيع البواقي الزراعية، منطلقين من انها تمثل شريانا للانعاش الاقتصادي في مصر الاخرى.
في دراستهم المرجعية وجدوا ان البواقي الزراعية في مصر تقدر سنوياً بحوالي 72مليون طن كاحطاب (حطب الذرة والقطن) او عروش (بنجر السكر والطماطم والبطاطس) او قشر (القمح والارز)- وللعلم فان مصاص القصب وحده يقدر بحوالي 30 مليون طن.
اضف الى ذلك ان الفلاحين يلجأون عادة الى تشوين تلك البواقي في حواف الحقول تمهيدا للتخلص منها، بما يقتطع من الرقعة الزراعية نحو 88 الف فدان، كان من الممكن ان تزرع قمحا.
هؤلاء الباحثون المغمورون، الذين لم تعرف لهم أسماء ولم تر لهم صور، يجوبون ارجاء «مصر الاخرى» منذ بداية التسعينيات، باحثين عن الكيفية التي يمكن بها احياء الموات في القرى الفقيرة، بحيث يتحول اهلها من قاعدين خاملين الى منتجين، ومن يائسين الى فاعلين.

في عام 1993 اقاموا معرضا لتصنيع الواح خشب «الكونتر» من جريد النخيل.ونجحوا في اقناع سكان القرى الغنية بالنخيل بان الجريد الذي يجفف ويحرق يمكن ان يكون خامة لصناعة تدر عليهم دخلا طيبا، وتغنى عن استيراد خشب الكونتر من الخارج.
وحين نجحت تجاربهم وظهرت الواح الخشب الكونتر الى النور، فانهم حصلوا على شهادات بجودة المنتج من معهد بحوث الاخشاب في ميونيخ،
وحصلوا على جائزة من مؤتمر المواد الذي انعقد في ماسترخت بهولندا عام 1997.واقاموا معرضا لمشروعات منتجات المشربية (الارابيسك او الخرط العربي) في كل من محافظتي الوادي الجديد والفيوم.

ايضا في عام 2006 نجحوا في استخدام حطب القطن كمادة صناعية.واستطاعوا تشغيل احد مصانع الاسكندرية للخشب الحبيبي بذلك الحطب، بديلا لاخشاب الكازوارينا التي اشرفت كمياتها المتاحة على النضوب. من ثم، فبدلا من الحرق المكشوف للحطب المسبب للسحابة السوداء، فان ذلك الحطب اصبح له سعر وفائدة.
في عام 1998 نفذوا مشروعا لاستخدام نواتج تقليم أشجار الفاكهة بديلا للاخشاب المستوردة.ووظفوا في ذلك اخشاب 7 انواع من الفاكهة وصنعوا منها اخشابا تنافس خواص خشب الزان الذي تستورده مصر بما قيمته 4 مليارات جنيه سنوياً.
في عام 2006 قاموا بتجربة ناجحة اخرى.ذهبوا الى بلدة شماس بمرسى مطروح، التي تعد واحدة من افقر عشر قرى في مصر، ووجدوا ان التين فيها بلا ثمن لكثرته، ولاحظوا ان الفائض منه يلقى في الشوارع، فرتبوا لبعض سيدات القرية بالتعاون مع كلية الزراعة بجامعة الاسكندرية، كيف يمكن ان يتحول التين الى مربى.واستطاعت ثلاث سيدات تصنيع 15 طن مربى في شهرين، حققت المواصفات العالمية في الغذاء.
ذلك كله لم يشعر او يسمع به احد.لكن فريق النمل الذي يقوده الدكتور حامد الموصلي الاستاذ غير المتفرغ بهندسة عين شمس لم يتوقف عن السفر مع مساعديه الى قرى الفقراء ومحاولة استخراج الامل من البؤس واليأس.وهم يحلمون بنشر فكرة تصنيع البواقي الزراعية (البيو فيبرز) التي تستثمر تلك الثروة المجهولة في العديد من الصناعات المهمة التي تشكل نقلة مهمة ليس فقط في حياة القرى الفقيرة، ولكن ايضا في مسار النهوض بالمجتمع وتطوره.
(4)اكتشفت ان الجمعية الشرعية في مصر تقف على راس جيوش النمل التي ما برحت تبنى في صمت منذ مائة عام.ونبهني الى ذلك ان القائمين عليها اقاموا احتفالا متواضعا بهذه المناسبة في مقرهم بالقاهرة، تجاهلته وسائل الاعلام، ونشرت وقائعه مجلتهم «التباين» في عددها الشهري الاخير.
واثار انتباهي في انشطة الجمعية حجم الدور التنموي الذي تقوم به، جنبا الى جنب مع دورها الدعوي التقليدي.
بدا ذلك الدور التنموي مفاجئا ومدهشا.فهم يكفلون 560 الف يتيم في مصر، وينفذون من اموال الزكاة مشروعا للمراكز الطبية المتخصصة، التي لا تعالج الفقراء فحسب، ولكن غير القادرين ايضا، بغير تمييز بين المسلمين والمسيحيين.(جلسة الكيماوي الواحدة لمرضى السرطان تتكلف 5 آلاف جنيه).وتقدم خدماتها يوميا لمائة مريض بالعلاج الاشعاعي و30 مريضا بالكيماوي.والاخيرون يكلفون الجمعية ما يجاوز 5 ملايين جنيه كل شهر.
ومن خلال لجنة الاغاثة بنقابة الاطباء، فانهم اوصلوا المعونات الى العديد من دول افريقيا وآسيا.في ذات الوقت فانهم يكفلون عشرة آلاف طالب وافد، فيقدمون لهم رواتب شهرية الى جانب الاقامة الكاملة والرعاية الصحية، ويعلمونهم العربية.وقد حصل 50 واحدا منهم على شهادة الدكتوراه.
قائمة العطاء طويلة.فلديهم مشروع لتنمية رؤوس الماعز، التي يتم توزيعها على الفقراء والمعدمين (لديهم 82 وحدة تستوعب الواحدة 215 راسا).كما انشات الجمعية 50 محطة لمياه الشرب، تكلفت الواحدة 150 ألف جنيه، وتغذي 12 الف نسمة.
لست أشك في أن مصر تحفل بمثل هؤلاء البنائين العظام الذين لم ينتظروا منا تشجعيا ولا تصفيقا، فمن واجبنا ان نسجل أسماءهم بحروف من نور، وان نقول لهم شكرا،
ليس فقط لما يعملونه، ولكن ايضا لانهم ذكرونا بانه لايزال فينا خير كثير، يمنحنا شعاع امل وسط الظلمة التي نغرق فيها.

تركيا نموذج لمكر التاريخ – فهمي هويدي

الصعود التركى المشهود من دلائل مكر التاريخ.
كانت تلك خلاصة ما قلته حين دعيت للمشاركة فى جلسة خصصت للشأن التركى، فى ندوة دعا إليها «منتدى الجزيرة» فى الأسبوع الماضى، كان عنوانها «الرؤى البديلة للعالم العربى والإسلامى».

خلاصة الفكرة التى أردت توصيلها هى أن كل الشواهد كانت تدل على أن التاريخ ماضٍ فى اتجاه معين، وأن العالم العربى بدا وكأنه مرشح للافتراس وقابل للفتك والانقضاض، ولكن الظهور التركى المفاجئ قلب الطاولة، وأربك الحسابات والسيناريوهات المرشحة، فالاتحاد السوفييتى انهار والعرب أصبحوا بلا صديق والولايات المتحدة متورطة فى أفغانستان والعراق وفى أزماتها الداخلية، وإيران محاصرة ومصنفة أمريكيا فى «معسكر الشر» ومصر انكفأت على ذاتها وخرجت من المشهد العربى.
اضافة إلى أن النظام العربى انهار والدول العربية أصبحت معسكرين متنافرين ما بين الاعتدال والممانعة،
أما القضية الفلسطينية فقد تراجعت أولويتها وتعاملت معها أغلب الأنظمة باعتبارها عبئا تريد الخلاص منه والتحلل من تبعاته، فضلا عن أن السلطة الفلسطينية باتت عاجزة عن الفعل والحركة، وأصبح اعتمادها على الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل أكثر من تعويلها على الشعب الفلسطينى والتأييد العربى.
لم يقف الأمر عند حدود التغيير فى الخرائط السياسية، ولكنه شمل أيضا بعض القيم السائدة، فالمقاومة صارت مستهجنة من قبل بعض الأنظمة وإرهابا عند أنظمة أخرى. والتطبيع مع إسرائيل أصبح وجهة نظر يتبناها البعض ويرفضها آخرون والاستتباع للولايات المتحدة صار مرحبا به، والقواعد العسكرية الأجنبية لم تعد شذوذا ولا خطيئة،
وفى ظل شعار بلدنا أولا ــ مصر والأردن أو لبنان وغير ذلك ــ أصبح التفريط فى الأمن القومى العربى أمرا مقبولا ومحتملا. بل إن فكرة التحرر الوطنى ذاتها أصبحت ملتبسة وغريبة على بعض الاذهان، إلى غير ذلك من القرائن التى تدل على مدى الوهن والفساد فى الوضع العربى، الذى كانت الأزمة/ الفضيحة التى شوهت العلاقة بين مصر والجزائر بسبب مباراة كرة القدم من تداعياته.
فى هذا الاجواء ظهر حزب العدالة على المسرح، وشكلت قيادته الحكومة فى عام 2003 بأغلبية مشهودة، فخطفت الأبصار، خصوصا حينما أدرك الجميع عزم القيادة الجديدة على القيام بدور فاعل فى المنطقة، ثم حين تبنت موقفا نزيها ازاء القضية الفلسطينية، وهو ما كان له صداه ورنينه القوى فى الفضاء والحيرة المخيمين، عززت من أهمية ذلك الدور أربعة عوامل،

الأول أن الحكومة جاءت مستندة إلى أغلبية شعبية قوية، لم تكن مألوفة فى الساحة التركية، الأمر الذى شجعها على أن تتحرك باطمئنان وثقة معتمدة على ذلك التفويض الشعبى الواسع.
الأمر الثانى أن النموذج الذى قدمه حزب العدالة بخلفيته الإسلامية لقى قبولا من الناس. ذلك أنه لم يخاطب الجماهير بلغة الوعظ والارشاد، لكنه بنى مشروعه ورصيده على السعى الدءوب لنفع الناس وتلبية احتياجاتهم، ولذلك كان تركيزه على الانجاز الاقتصادى ضمن أولوياته.
الأمر الثالث أن الحزب بادائه أسقط معادلة التعارض بين الإسلام والديمقراطية، حيث خاض الانتخابات البلدية أولا والتشريعية ثانيا منطلقا من التسليم بقواعد اللعبة الديمقراطية ومبادئها.
الأمر الرابع أن حكومة حزب العدالة اتجهت إلى المحيط العربى والإسلامى، دون أن تفرط فى حرصها على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى، صحيح أنها بدأت بمجالات التعاون الاقتصادى، وسعت إلى الغاء تأشيرات الدخول مع أربع دول عربية هى سوريا ولبنان والأردن وليبيا، لكنها ما لبثت أن أصبحت حاضرة بقوة فى مختلف عناصر المشهد السياسى.
إن الديمقراطية هى التى مكنت حزب العدالة من تطوير وانضاج مشروعه وبرنامجه السياسى،
وهى التى جاءت به إلى البلديات أولا ثم إلى البرلمان ورئاسة الحكومة بعد ذلك.
وهى التى فرضت على قيادة الحزب ممثلة فى عبدالله جول رئيس الجمهورية ورجب طيب أردوغان رئيس الوزراء أن يعبرا عن مشاعر الناس وغضبهم، خصوصا ازاء الموضوع الفلسطينى، الذى أصبح أردوغان من أفضل المتحدثين عنه،
ومن ثم فإن الديمقراطية حين أخذت على محمل الجد (لا تقارن من فضلك) كانت عنصرا فاعلا فى إفساد المخططات والسيناريوهات المرسومة فى الخارج، وجعلت المجتمع مساهما فى صنع التاريخ وليس متفرجا عليه.

انتصار آخر لغزة – فهمي هويدي


ينبغي أن نتوجّه بالشكر إلى الذين نظموا رحلة «أسطول الحرية»، لأنهم أيقظونا من سُباتنا وغيبوبتنا، وذكّرونا بقطاع غزة والحصار الإجرامي المضروب عليه، بعدما كاد كثيرون منا ينسون الموضوع في ظل التعتيم والتشويه اللذين نتعرض لهما منذ ثلاث سنوات،
ذلك أن ما جرى أعاد فضيحة الحصار إلى عناوين الصحف وصدارة قنوات الأنباء في أنحاء العالم، وفضح الصمت الإعلامي الرسمي العربي، الذي اشترك في الحصار، جنبا إلى جنب مع الإسهام في الحصار على الأرض، من خلال إغلاق معبر رفح وهدم الأنفاق وبناء السور الفولاذي الذي أريد به قطع الطريق على وصول أي إمدادات إلى غزة.

الأمر لا يُفسر إلا بمفارقات الأقدار وسخرياتها، ذلك أن الجهد الذي بُذل خلال السنوات الثلاث الأخيرة بوجه أخص، لاعتبار الحصار أمرا عاديا وأسلوب حياة مقبولا وغير مستغرب في العالم العربي،
كما اعتبر تقديم العون للمحاصرين تهمة يلاحق البعض بسببها، فيعتقلون وتلفق لهم القضايا،
أما الذين عبروا عن تضامنهم مع المحاصرين، فإن «جريمتهم» كانت من الجسامة بحيث قُدِّم بعضهم إلى المحكمة العسكرية، كما حدث مع زميلنا الأستاذ مجدي حسين، الذي ينفذ الآن عقوبة السجن لثلاث سنوات بسبب اقترافه تلك «الجريمة»،

ليس ذلك فحسب، وإنما جرت محاولة تعبئة الرأي العام لكي يستقبل حديثا عن استئناف مسيرة السلام، ولكي يقتنع بأن إسرائيل لم تعد خطرا يهدد العالم العربي، وأن قنابلها النووية ليست سوى قنابل «صديقة»، في حين أن الخطر الحقيقي والدائم مصدره إيران ومشروعها النووي الذي لايزال جنينا في بطن الغيب..

ذلك كله انهار وانفضح الكذب والإفك فيه، دون أن يكون للعرب فيه يد، إذ شاء ربك أن يقوم العجم بما نسيه العرب، وأن يحمل النشطاء الشرفاء في العالم الغربي الأمانة التي فرط فيها «الأشقاء» في العالم العربي، فيعلنون رفض الحصار ويعتبرون إقامته أو الإسهام فيه جريمة أخلاقية وإنسانية قبل أن تكون سياسية ـ ويتنادون فيما بينهم لكي يحملوا بسواعدهم وعلى أكتافهم كل ما قدروا عليه من مؤن وأدوية ومستلزمات لاستئناف الحياة
ـ ثم لكي يسعوا إلى كسر الحصار الذي ألفناه ولم نعد نكترث به، عوضوا انكسارنا بما تمتعوا به من شجاعة ونبل، ولم يأبهوا باستسلامنا وانهزامنا، فركبوا سفنهم وقرروا أن يتحدوا غطرسة إسرائيل واستعلاءها. وحين باغتتهم بهجوم الفجر الدامي، الذي قتلت فيه قواتهم بعض النشطاء وجرحت آخرين واعتقلت الجميع،
فإن سخرية الأقدار بلغت ذروتها، إذ انفضح القبح الإسرائيلي وانكشفت الدمامة فيه ليس فقط أمام العرب وحدهم، وإنما أمام العالم أجمع. ولم يكن الإسرائيليون وحدهم الذين سقطوا، وإنما سقط معهم كل «المعتدلين» الذين تحالفوا معهم وراهنوا عليهم، وساعدوهم على تسويف أكذوبة الصديق الإسرائيلي والعدو الإيراني!

صحيح أن العربدة الإسرائيلية ليست جديدة علينا، ولكن الغباء الإسرائيلي هو الذي فاجأنا، ذلك أنهم حين انقضّوا على السفينة «مرمرة»، وفعلوا ما فعلوه ظنا منهم أنهم أجهضوا المسيرة وسحقوا جموع الناشطين، فإنهم عمموا الفضيحة وخسروا معركتهم سياسيا وإعلاميا.
ذلك أنهم لم ينقضّوا عليهم ويقتلوهم في المياه الدولية فحسب، ولم يفتكوا بهم وهم المدنيون العزل فحسب، ولكنهم أعلنوها حربا ضد الشرفاء والنشطاء في العالم بأسره، أولئك الذين قدموا من 40 دولة لمواساة المحاصرين ونصرتهم.

كأن الغرور أعمى الإسرائيليين. فدفعهم إلى الإقدام على عملية انتحارية خرجوا منها خاسرين بالكامل، في حين كسبت القضية الفلسطينية مزيدا من الأنصار، وعادت غزة إلى صدارة الأخبار، وأصبح فك الحصار عليها مطلبا دوليا ملحّا،

وبذلك فإنها حققت انتصارا آخر أهدته الأقدار إليها رغما عن الجميع، ثم إنهم باستهدافهم السفينة «مرمرة» دون غيرها،
فإنهم خسروا تركيا أيضا، التي أصبحت النصير الأكبر للقضية الفلسطينية في وقت خلا فيه مقعد «الشقيقة الكبرى»

من أسئلة الساعة – فهمي هويدي


الهجوم الإسرائيلي على قافلة الحرية، التي حاولت الوصول إلى غزة يستدعي قائمة طويلة من الأسئلة، هذه بعض منها:

ـ هل كان يمكن أن تقدم إسرائيل على جريمة بتلك البشاعة في المياه الدولية، من دون موافقة أو ضوء أخضر من الولايات المتحدة الأميركية؟

ـ هل كانت ستلجأ إلى قتل وأسر الناشطين المتضامنين مع غزة الساعين إلى كسر الحصار المفروض عليها، إذا استشعرت أن ارتكابها لتلك الجريمة يمكن أن يؤثر على علاقاتها مع أصدقائها «المعتدلين» في العالم العربي؟

ـ هل كانت ستعلنها حرباً على النشطاء القادمين من 40 دولة حول العالم، متحدِّين بذلك القوانين والأعراف الدولية، خصوصاً تلك التي تنظم استخدام المياه الدولية، لو خطر لها أنها يمكن أن تحاسب جنائياً أو دولياً على ما اقترفته؟

ـ هل بوسعنا أن نقول إن من بين الأخطاء الجسيمة، التي ارتكبتها إسرائيل، أنها تعاملت مع نشطاء الحملة الدولية بمن فيهم الغربيون، بمثل ما تعامل به العرب، غير مدركة أن دم الغربيين أغلى من دم العرب، وأن للأولين كرامة يعتزون بها بخلاف الأخيرين؟

ـ هل يمكن أن نعتبر أن قرار الرئيس مبارك بفتح معبر رفح بمنزلة استجابة لمطالب القاهرة والمجتمع الدولي بضرورة رفع الحصار عن غزة؟
وإذا كانت مصر في صدد تصحيح هادئ للأخطاء، التي ارتكبتها، فهل ستتقدم إلى الأمام خطوة أخرى، وتطلق سراح عناصر المقاومة الفلسطينيين، الذين تعتقلهم بمن فيهم الخمسة عشر عنصراً من أعضاء حركة الجهاد الإسلامي الذين ألقى القبض عليهم فى طريق عودتهم من دمشق والسعودية؟

ـ بماذا تفسر أن أبصار العالم العربي تعلقت بكلام رئيس الوزراء التركي، رجب أردوغان، ووزير خارجيته، أحمد داود أوغلو، ولم يأبه أحد أو يعلق أملاً على الاجتماع الطارئ لمجلس جامعة الدول العربية؟

ـ كيف نفهم كلام السيد عمرو موسى ، أمين الجامعة العربية، الذي أعلنه في الدوحة يوم وقوع الجريمة، وقال فيه، إنه لا أمل فى إقامة سلام مع إسرائيل، ومع ذلك فإن الجامعة العربية أيدت ذهاب الفلسطينيين لمفاوضات غير مباشرة مع ممثليها، علماً أنه هو من قال سابقاً إن عملية السلام ماتت؟

ـ بماذا تفسر إحجام الدول العربية على سحب المبادرة، التي أطلقتها قمة بيروت، رغم إعلان العاهل السعودي، وغيره من القادة العرب، أنها لن تبقى طويلاً على الطاولة، وهل يعني السكوت العربي أن القادة أدركوا أنه لم تعد هناك طاولة أصلاً ؟

ـ بماذا تفسر أن تركيا اتخدت إجراءات عدة تحذيرية وعقابية إزاء إسرائيل، كما طالبت باعتذارها، وبمحاسبة المسؤولين عن ارتكاب الجريمة، في حين أن القادة العرب اكتفوا بالإدانات، ولم يتخذوا أي إجراء في حق علاقات ومصالح إسرائيل؟

ـ كيف تقرأ واقعة رفع الأعلام التركية في المظاهرات، التي عمت العالم العربي، من الجزائر، ونواكشوط، إلى اليمن والسودان، من دون أن نرى علماً واحداً «للشقيقة الكبرى» مصر؟

ـ هل أصاب الرئيس مبارك أو أخطأ حين ألقى في نفس يوم وقوع الجريمة كلمة أمام قمة أفريقيا ــ فرنسا، تجاهل فيها الموضوع ولم يشر إليه، واكتفى بالبيان، الذي أصدرته رئاسة الجمهورية في خصوصه؟

ـ بماذا تفسر أن رئيس الوزراء التركي وصف الغارة بأنها «عمل دنيء، وجريمة إرهاب دولة»، وأن الرئيس البرازيلي اعتبر ما أقدمت عليه إسرائيل بأنه «مجزرة شنيعة»، في حين أن البيان الرئاسي المصري وصف ما جرى بأنه «استخدام مفرط وغير مبرر للقوة»؟

ـ ما الحكمة في الزج بالانقسام الفلسطيني في البيان الرئاسي المصرى؟ وهل تعد الإشارة إلى أن المصالحة الفلسطينية هي الطريق لرفع الحصار بمنزلة محاولة من مصر لغسل أيديها من الاشتراك في الحصار، ومن ثم إلقاء الكرة في مرمى الانقسام الفلسطيني؟

ـ هل صحيح أن غاية ما تملكه مصر أن تستدعي السفير الإسرائيلي إلى وزارة الخارجية، لتبلغه احتجاجها؟

ـ وهل صحيح ما نقلته الصحف الإسرائيلية من أن مصر «تفهمت» الموقف الإسرائيلي؟

ـ حين تجاهل التليفزيون المصري أصداء الجريمة الإسرائيلية، يوم الثلاثاء، وانشغل طوال اليوم بمتابعة التصويت لانتخابات مجلس الشورى في أنحاء البلاد، هل كان ذلك قرينة عملية على تطبيق شعار «مصر أولاً»؟

هذه ليست كلها أسئلة للاستفهام، لكن بعضها للاستنكار والاستهجان، وإجابات بعضها معروفة ومشهورة، والبعض الآخر إجاباته محيرة أو مخزية،
وهي من جانبي نوع من الفضفضة التي لجأت إليها، بعدما صار في الفم ماء كثير، وامتلأ القلب بهَم يفوق القدرة على الاحتمال.

مصر الرائدة «سابقًا» – فهمي هويدي


خلال الأسابيع القليلة الماضية تعددت زيارات المسؤولين العراقيين للرياض لمناقشة أوضاع ما بعد الانتخابات التشريعية.
قبل الانتخابات زارها رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوى. وبعدها قام الرئيس العراقى جلال طالبانى بزيارتها. وما كاد يغادر حتى كان مسعود البرزاني رئيس حكومة إقليم كردستان ضيفا على العاهل السعودي. وقبله كان وفد من التيار الصدري قد قام بزيارته.
وخلال تلك الزيارات التقى المسؤولون العراقيون مع كبار المسؤولين السعوديين، ما بين الملك عبدالله ووزير الخارجية الأمير سعود الفيصل، الذي اكتفى بتصريح قال فيه إن المملكة ليس منحازة إلى أحد في العراق لكنها تحتفظ بمسافة واحدة مع كل الأطراف.

هذا الحضور السعودي في المشهد الانتخابي العراقي يقابله حضور إيراني قوي، الأمر الذي يعني أن البلدين أصبحا لاعبين أساسيين في الساحة العراقية، بعد الولايات المتحدة بطبيعة الحال.
وهذا التنافس السعودي الإيراني تكرر في لبنان. في الانتخابات التشريعية والبلدية. علما بأن الدور السوري لايزال على قوته هناك، وقد ازداد في الآونة الأخيرة، خصوصا بعد الزيارة التي قام بها وليد جنبلاط إلى دمشق، بعد طول قطيعة وخصام. وثمة تحضير الآن لزيارة لا تقل أهمية سيقوم بها رئيس الوزراء سعد الحريري للعاصمة السورية.

حين يجول المرء ببصره في أرجاء العالم العربي، سوف يلاحظ أن قطر كان لها دورها النشط على أكثر من جبهة، في المصالحة بين الحوثيين والحكومة اليمنية، وبين الفرقاء اللبنانيين بعضهم البعض، وبين متمردي دارفور والحكومة السودانية وفي دعم المحاصرين في غزة.
وسيجد أن لندن رعت واستقبلت مؤتمرا لبحث الأزمة اليمنية. وأن كينيا كانت لاعبا رئيسيا في تحديد مستقبل جنوب السودان بشماله من خلال اتفاقيتي ماشاكوس ونيفاشا، كما أن ليبيا كان لها دورها في المصالحة بين تشاد والسودان.
ورغم أن دولتين عربيتين لهما علاقاتهما الديبلوماسية مع إسرائيل، هما مصر والأردن، فإن الذي قام بالوساطة بين سورية وإسرائيل كانت تركيا.

لا يكاد المرء يجد ذكرا لمصر في هذه العناوين، الأمر الذي يثير الانتباه والدهشة أيضا. وهذا الغياب من دلائل حالة الانكفاء على الداخل، كما أنه شهادة على تراجع الدور المصري في العالم العربي.
وليس الأمر مقصورا على الساحة السياسية لأننا فوجئنا خلال السنوات الأخيرة بأن الجامعات المصرية، التي كانت بدورها رائدة يوميا ما، خرجت من تصنيف الجامعات المحترمة في العالم، وأن جامعات بعض الدول الأفريقية الناشئة تقدمت عليها وأثبتت حضورا مشهودا في القائمة، وسبقت هذه وتلك بعض الجامعات الإسرائيلية.
وحين قرأت أن شركة مقاولات تركية فازت بعقد تجهيز المنشآت اللازمة لعقد القمة العربية في مدينة سرت الليبية، وأنجزت خلال تسعة أشهر كل القصور والفيلات المطلوبة ومعها حي سكني كامل، كان السؤال الذي شغلني هو:
لماذا لم يعد هناك ذكر لـ«المقاولون العرب» في العالم العربي؟

ذلك حاصل بدرجة أو أخرى في المجال الإعلامي، حيث ألغت قناة «الجزيرة» مثلا أي تأثير للتليفزيون المصري، وتقدمت المسلسلات التركية والسورية على المسلسلات المصرية. بل إن المطربين اللبنانيين غزوا القاهرة وأصبحوا منافسين أقوياء لنظرائهم المصريين، بحيث أصبح أملنا في التفوق وإثبات الحضور معقودا تقريبا على المنتخب القومي لكرة القدم!

حتى نكون أكثر دقة، لا يفوتنا أن نسجل أن مصر أثبتت حضورا في مجالات أخرى لا تشرفها كثيرا، فهي لاتزال بين الرواد في احتكار السلطة وتطبيق قوانين الطوارئ والتعذيب والاعتقالات، وفي مؤشرات الفساد وتزوير الانتخابات.

هذه الصور تفرض نفسها على الذاكرة كلما تجدد الحديث عن ريادة مصر التي هي حقيقة بأمر الجغرافيا والتاريخ، لكن الأمانة تقتضي أن نعترف بأن مصر الرائدة ليست مصر الراهنة. أعني أن مصر كانت رائدة حين كانت فاعلة ومستوفية لشروط الريادة واستحقاقاتها باعتبار أن الريادة وظيفة وليست لقبا.
أما حين خرجت مصر من الصف العربي بتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد عام 1979، فإنها انكفأت على ذاتها واستقالت عمليا من موقع الريادة، وأصبحت سياستها الخارجية محصورة في الالتحاق بمعكسر «الاعتدال» وتنفيذ السياسة الأميركية في المنطقة.
من ثم فإن الكلام عن ريادتها يكاد يفقد معناه، ويصبح داعيا إلى الحسرة والحزن بأكثر منه للثقة والاعتزاز. لهذا تمنيت على وزير الخارجية المصري السيد أحمد أبوالغيط حين يتطرق إلى هذه النقطة أن يكون أكثر تواضعا وحذرا، لأن مصر الكبيرة التي يلوح بها في أحاديثه الحماسية غير تلك التي يشير إليها الآن.