03 يونيو 2010

تركيا نموذج لمكر التاريخ – فهمي هويدي

الصعود التركى المشهود من دلائل مكر التاريخ.
كانت تلك خلاصة ما قلته حين دعيت للمشاركة فى جلسة خصصت للشأن التركى، فى ندوة دعا إليها «منتدى الجزيرة» فى الأسبوع الماضى، كان عنوانها «الرؤى البديلة للعالم العربى والإسلامى».

خلاصة الفكرة التى أردت توصيلها هى أن كل الشواهد كانت تدل على أن التاريخ ماضٍ فى اتجاه معين، وأن العالم العربى بدا وكأنه مرشح للافتراس وقابل للفتك والانقضاض، ولكن الظهور التركى المفاجئ قلب الطاولة، وأربك الحسابات والسيناريوهات المرشحة، فالاتحاد السوفييتى انهار والعرب أصبحوا بلا صديق والولايات المتحدة متورطة فى أفغانستان والعراق وفى أزماتها الداخلية، وإيران محاصرة ومصنفة أمريكيا فى «معسكر الشر» ومصر انكفأت على ذاتها وخرجت من المشهد العربى.
اضافة إلى أن النظام العربى انهار والدول العربية أصبحت معسكرين متنافرين ما بين الاعتدال والممانعة،
أما القضية الفلسطينية فقد تراجعت أولويتها وتعاملت معها أغلب الأنظمة باعتبارها عبئا تريد الخلاص منه والتحلل من تبعاته، فضلا عن أن السلطة الفلسطينية باتت عاجزة عن الفعل والحركة، وأصبح اعتمادها على الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل أكثر من تعويلها على الشعب الفلسطينى والتأييد العربى.
لم يقف الأمر عند حدود التغيير فى الخرائط السياسية، ولكنه شمل أيضا بعض القيم السائدة، فالمقاومة صارت مستهجنة من قبل بعض الأنظمة وإرهابا عند أنظمة أخرى. والتطبيع مع إسرائيل أصبح وجهة نظر يتبناها البعض ويرفضها آخرون والاستتباع للولايات المتحدة صار مرحبا به، والقواعد العسكرية الأجنبية لم تعد شذوذا ولا خطيئة،
وفى ظل شعار بلدنا أولا ــ مصر والأردن أو لبنان وغير ذلك ــ أصبح التفريط فى الأمن القومى العربى أمرا مقبولا ومحتملا. بل إن فكرة التحرر الوطنى ذاتها أصبحت ملتبسة وغريبة على بعض الاذهان، إلى غير ذلك من القرائن التى تدل على مدى الوهن والفساد فى الوضع العربى، الذى كانت الأزمة/ الفضيحة التى شوهت العلاقة بين مصر والجزائر بسبب مباراة كرة القدم من تداعياته.
فى هذا الاجواء ظهر حزب العدالة على المسرح، وشكلت قيادته الحكومة فى عام 2003 بأغلبية مشهودة، فخطفت الأبصار، خصوصا حينما أدرك الجميع عزم القيادة الجديدة على القيام بدور فاعل فى المنطقة، ثم حين تبنت موقفا نزيها ازاء القضية الفلسطينية، وهو ما كان له صداه ورنينه القوى فى الفضاء والحيرة المخيمين، عززت من أهمية ذلك الدور أربعة عوامل،

الأول أن الحكومة جاءت مستندة إلى أغلبية شعبية قوية، لم تكن مألوفة فى الساحة التركية، الأمر الذى شجعها على أن تتحرك باطمئنان وثقة معتمدة على ذلك التفويض الشعبى الواسع.
الأمر الثانى أن النموذج الذى قدمه حزب العدالة بخلفيته الإسلامية لقى قبولا من الناس. ذلك أنه لم يخاطب الجماهير بلغة الوعظ والارشاد، لكنه بنى مشروعه ورصيده على السعى الدءوب لنفع الناس وتلبية احتياجاتهم، ولذلك كان تركيزه على الانجاز الاقتصادى ضمن أولوياته.
الأمر الثالث أن الحزب بادائه أسقط معادلة التعارض بين الإسلام والديمقراطية، حيث خاض الانتخابات البلدية أولا والتشريعية ثانيا منطلقا من التسليم بقواعد اللعبة الديمقراطية ومبادئها.
الأمر الرابع أن حكومة حزب العدالة اتجهت إلى المحيط العربى والإسلامى، دون أن تفرط فى حرصها على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى، صحيح أنها بدأت بمجالات التعاون الاقتصادى، وسعت إلى الغاء تأشيرات الدخول مع أربع دول عربية هى سوريا ولبنان والأردن وليبيا، لكنها ما لبثت أن أصبحت حاضرة بقوة فى مختلف عناصر المشهد السياسى.
إن الديمقراطية هى التى مكنت حزب العدالة من تطوير وانضاج مشروعه وبرنامجه السياسى،
وهى التى جاءت به إلى البلديات أولا ثم إلى البرلمان ورئاسة الحكومة بعد ذلك.
وهى التى فرضت على قيادة الحزب ممثلة فى عبدالله جول رئيس الجمهورية ورجب طيب أردوغان رئيس الوزراء أن يعبرا عن مشاعر الناس وغضبهم، خصوصا ازاء الموضوع الفلسطينى، الذى أصبح أردوغان من أفضل المتحدثين عنه،
ومن ثم فإن الديمقراطية حين أخذت على محمل الجد (لا تقارن من فضلك) كانت عنصرا فاعلا فى إفساد المخططات والسيناريوهات المرسومة فى الخارج، وجعلت المجتمع مساهما فى صنع التاريخ وليس متفرجا عليه.

ليست هناك تعليقات: