‏إظهار الرسائل ذات التسميات أ.فهمي هويدي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات أ.فهمي هويدي. إظهار كافة الرسائل

23 مايو 2012

الخطأ القاتل - فهمى هويدى


أكبر خطأ أن يتصور أي أحد أن المنافسة في الانتخابات الرئاسية التي تجرى اليوم هي بين الإسلاميين والعلمانيين. أو بين مشروعي الدولة المدنية والدينية، لأنها في حقيقة الأمر بين الثورة وبين الثورة المضادة. أو بين الحلم والكابوس. وقد لا أبالغ إذا قلت إنها أيضا بين ميداني التحرير وروكسي. وربما كان ذلك تعبيرا أدق لأن الذين احتشدوا في ميدان التحرير في 25 يناير هم شعب مصر بكل فئاته. أما الذين اجتمعوا لاحقا في ميدان روكسي فهم الذين تعلقت أهواؤهم وربما مصالحهم وارتباطاتهم بالنظام القديم. ومن المفارقات أن يقع ميدان روكسي في قلب «مصر الجديدة»، في حين أن الذين تظاهروا فيه ينتمون بامتياز إلى مصر «القديمة» التي جثم على صدرها مبارك (وأعوانه) وأراد أن يظل ممسكا بخناقها حتى «آخر نفس»، كما ذكر صراحة، وسعى لأن يورثها لابنه من بعده إلى أجل لا يعلمه إلا الله.


لذلك فإن حلم مصر الجديدة كان ولا يزال في ميدان التحرير، وأي التباس أو خطأ في قراءة المشهد والعنوان يغدو كارثيا. يفتح الباب لإجهاض الثورة والانقضاض عليها.


أدرى أن ثمة تناقضات بين التيارين الإسلامي والعلماني، وأن التنافس والصراع بينهما لم يتوقفا طيلة الخمسة عشر شهرا الماضية. وكلنا شاهدنا بأعيننا التجاذب بين الفريقين، وكيف أنه اتخذ في بعض الأحيان «صورا غير صحية تجرح هذا الطرف أو ذاك. إلا أنني أشدد على أن التناقض الرئيسي ــ الأكبر والأخطر ــ هو بين التيارين معا وبين نظام مبارك. وأنبِّه إلى أن كل التراشقات التي حدثت بين الإسلاميين والعلمانيين مرجعها سوء التقدير أو سوء الظن أو إساءة إدارة الخلاف، أما ما بين الطرفين وبين أركان النظام السابق وأعوانه فهو أعمق وأعقد بكثير. هو شيء أبعد من الظنون وسوء التقدير، وأقرب إلى الخصومة المتأصلة التي صنعتها مرارات ثلاثين عاما من الاستبداد والفساد.


من هذه الزاوية، فإن أية سوءات تنسب إلى الإسلاميين أو العلمانيين لا تكاد تقارن بجرائم النظام السابق وسجل جناياته على الوطن. لا أنكر أن التيار الإسلامي بوجه أخص أساء تقديم نفسه بعدما حاز الأغلبية في الانتخابات التشريعية. كما أنه تعرض لحملة تشويه عاتية أسهمت فيها وسائل الإعلام التي مازالت متأثرة بخطاب الفزاعة الذي اعتمده النظام السابق. لكنني أذكر أن الجميع حديثو عهد بالممارسة الديمقراطية، التي حرمنا منها النظام السابق. إلا أنني أرجو ألا نتعامل مع ذلك التيار باعتباره كتلة صماء واحدة، ولكنه يضم جماعات من البشر تتباين أفكارهم ومواقفهم. وشأنهم شأن أي جماعة بشرية، فيهم العقلاء المعتدلون، وفيهم المتطرفون والحمقى.


وليس صحيحا أن الصراع في مصر بات محصورا بين الدولتين الدينية والمدنية. فهذا اختزال مخل، بل خبيث ومشكوك في براءته. حتى أزعم بأن الترويج لهذه الصيغة هو من قبيل التدليس والغش، ليس فقط لأن الإسلام لا يعرف الدولة الدينية المتعارف عليها في التجربة الأوروبية، ولكن أيضا لأن النماذج التي تستدعى في هذا الصدد بعضها له خصوصيته المذهبية (ولاية الفقية مثلا عند الشيعة الاثني عشرية) أو أنها مرتبطة بحالة من التخلف يستحيل استنساخها في الحالة المصرية (دولة طالبان في أفغانستان مثلا). ثم لا ننسى أن ثمة توافقا بين الجميع في مصر ــ إسلاميين وعلمانيين ــ على الإبقاء على المادة الثانية من الدستور التي تنص على اعتبار مبادئ الشريعة الإسلامية مرجعا للقوانين، ووثيقة الأزهر التي أيدها مختلف الأطراف لا تدع مجالا لاستمرار ذلك الصراع المفتعل، من حيث إنها صححت المعادلة وانحازت إلى الدولة الديمقراطية الحديثة التي تحفظ للدين مكانته وتديرها المؤسسات المدنية في مختلف المجالات.


إضافة إلى ما سبق لا يغيب عن البال أن الفشل في التوافق المرجو بين الطرفين الإسلامي والعلماني يتحمل الطرفان المسؤولية الأكبر عنه لا ريب. لكن النظام السابق الذي تحكم في البيئة السياسية في مصر طيلة الثلاثين سنة الأخيرة يتحمل بدوره جانبا من تلك المسؤولية. لأن سوء إدارته للمجتمع وإصراره على تغييب المشاركة والثقافة الديمقراطية أسهما في تشويه العلاقات بين القوى السياسية. ولم يكن سرا أن له مصلحة في جعل العلاقات فيما بينها تقوم على التقاطع والتنابذ وليس التوافق.


إن التحدي الذي يواجهه الناخب اليوم يتمثل في إدراكه لجوهر التناقض المطروح في اللحظة الراهنة، المتمثل في الاختيار بين استمرار الثورة وبين النكوص عنها وإجهاضها. وفي ضرورة التصويت للثورة وليس لأي طرف آخر منسوب إلى النظام الذي رفضته ودفعت لأجل ذلك ثمنا غاليا من دماء الشهداء وعيون الأحياء. ذلك أننا لا نريد في نهاية المطاف أن يرأس مصر مبارك مستنسخ أو معدل. لا نريد بالضرورة أن يكون الرئيس واحدا «مننا» كما تقول دعاية صديقنا حمدين صباحي، لأن الأهم ألا يكون واحدا «منهما»!

03 يونيو 2010

أسئلة الانكسار والضياع – فهمي هويدي


هل صحيح أن الجزائر صارت أبعد عنا، في حين أصبحت إسرائيل أقرب إلينا؟..
أدري أن السؤال ما كان ينبغي له أن يرد على البال أصلا، حيث يفترض أن تكون إجابته محسومة سلفا، لكنه بات واردا في زمن الانكسار، وغدا تجاهله نوعا من دفن الرؤوس في الرمال.

طرح السؤال له خلفيته التي تبرره. ذلك أن الصحف المصرية كانت قد نشرت كلاما للاعب الأهلي والمنتخب الوطني محمد أبوتريكة، أبدى فيها استعدادا وترحيبا بالسفر إلى الجزائر ومشاركة شعبها احتفاله بالتأهل لمونديال جنوب أفريقيا.

وحسبما ذكرت صحيفة «الدستور» (في 16 مايو الجاري) فإن أبوتريكة في توضيحه لموقفه قال إن هذا هو الوقت المناسب لإزالة الاحتقان بين الشعبين، على خلفية الأحداث التي خلفتها المباراة الشهيرة.
وأضاف أنه ليس من المنطقي السكوت عن الجفاء الذي حدث جراء تلك المباراة، لأن ما بين مصر والجزائر أكبر من أي خلاف بسبب مباراة في كرة القدم، خاصة أن الموضوع أخذ أكبر من حجمه،
كما أن مطالبة كل طرف للآخر بالاعتذار أمر غير مقبول، لأن ما بين الإخوة من روابط في الدين والدم أكبر من أي اعتذار، وخيرهما من يبدأ بالسلام.

هذا الكلام الرصين في الخبر المنشور استُقبل بغضب شديد من جانب أعضاء الجهاز الفني للمنتخب الوطني، وكانت الحجة في ذلك أن أبوتريكة كان أحد شهود العيان لما حدث في السودان وفي أنجولا، كما أنه على علم بالتصريحات المسيئة التي صدرت عن لاعبي المنتخب الجزائري وتناقلتها وسائل الإعلام، واستهدفت المدير الفني للمنتخب المصري.
فهمنا في الكلام المنشور أن مدير المنتخب أغضبته تصريحات أبوتريكة، وكذلك المدرب العام للمنتخب، الذي قال إن طبيعة العلاقات الطيبة القائمة بين الجهاز الفني واللاعبين تفرض على كل واحد من الأخيرين أن يرجع إلى الجهاز للحفاظ على صورته ووحدته قبل الإقدام على خطوة من ذلك القبيل تمس المنتخب الوطني ككل،
مضيفا أن كلام أبوتريكة عبر عن وجهة نظره الشخصية، باعتباره لاعبا في صفوف النادي الأهلي، قبل أن يكون لاعبا في المنتخب الوطني.

المشهد إذا صحّت وقائعه يضعنا أمام مفارقتين،
الأولى أن أبوتريكة تبنى موقفا أرقى وأكثر مسؤولية مما عبر عنه الجهاز الفني، فقد تصرّف اللاعب باعتباره مواطنا عربيا سويا في مصر الكبيرة التي تحتوي الأشقاء وترتفع لأجلهم فوق الجراح،
أما مسؤولو الجهاز الفني فقد تصرفوا كأعضاء في قبيلة منكفئة على مراراتها ولا يعنيها إلا الثأر لما أصابها.
المفارقة الثانية والأهم أن رئيس الجهاز الفني الذي غضب بشدة من ترحيب أبوتريكة بالذهاب إلى الجزائر لمشاركة الأشقاء هناك فرحتهم، هو ذاته الذي وافق على سفر المنتخب المصري إلى رام الله، لكي يلعب مع نظيره الفلسطيني في ظل الاحتلال الإسرائيلي وبرعاية من الأعداء.
صحيح أن المباراة أُجّلت لكن الفكرة لم تُلغَ، لأن موعدا جديدا تحدد لها. ومع ذلك فإن المفارقة تثير السؤال الذي ألقيته في بداية الكلام، حول ابتعادنا عن الجزائر واقترابنا من إسرائيل.

إذا دققنا في المشهد، فسنجد أن المفارقة ليست مقصورة على الجهاز الفني للمنتخب، ولكنها انعكاس لمدى التشوّه الذي أصاب الإدراك في بعض الدوائر بمصر. وهو التشوه الذي أسهمت فيه مواقف سياسية عدة أثارت قدرا غير قليل من الحيرة واللغط،
من ذلك اهتمام مصر بإقامة السور الفولاذي الذي يحكم الحصار حول غزة ويطمئن إسرائيل ويؤمنها بأكثر من اهتمامها ببناء بيوت ضحايا السيول في سيناء أو توفير احتياجات المحاصرين في القطاع.

إن أسئلة زمن الانكسار كثيرة، لكن أخطرها ذلك الذي لا يميز بين العدو وبين الصديق أو الشقيق، لأنه يعبر عن التلازم بين الانكسار والضياع.

مبدعون مسكوت عليهم – فهمي هويدي


حينما سدت الطواويس الأفق، فإننا لم نر مثابرة النمل ولا إبداعاته، تماما كما ان احباطات السلطة حجبت عنا اشراقات المجتمع.

(1)اتحدث عن الحراك الصامت الذي لم يتوقف في عمق المجتمع المصري.لا اقصد الحراك السياسي الذي يناطح السلطة ويدعو الى التغيير (رغم ان للسياسات طواويسها، ايضا)، لكني اتحدث عن اناس لم ينتظروا شيئا من السلطة ومارسوا بأنفسهم عملية التغيير في الواقع فيما قدروا عليه.
لم يكترثوا بالطوارئ التي استهدفت تشديد القبضة على المجتمع واطلاق يد السلطة لتتحكم في مصيره وتعبث به.لكنهم من جانبهم بادروا الى اعلان «طوارئ» من نوع آخر، لهدف أشرف وأنبل.
ذلك انهم استنهضوا همتهم واختاروا مفاصلة أهل الاهواء والاضواء، وانصرفوا الى صناعة احلامهم بأيديهم.لم ينتظروا خبراً في صحف الصباح، ولا صورة على شاشة التلفزيون، ولا شيئا من جوائز الدولة وعطاياها التي تتقاسمها شلل المنتفعين والمهللين.
اتحدث عن اولئك النفر من الشرفاء المجهولين، الذين اختاروا ان يعيشوا مع الفقراء ويأخذوا بأيديهم، تاركين طواويس المدينة يسبحون في اضوائها فرحين بما أوتوا.اولئك الذين ظلوا مهجوسين بالغرس والزرع دون ان ينتظروا من أحد جزاء ولا شكورا.تركوا للطواويس التيه والمجد، وقعدوا بعيدا في الظل ينسجون الحلم ويبنون في هدوء، متخذين من مثابرة النمل وتواضعه نموذجا ومثلا اعلا.
(2)في صنعاء سمعت لاول مرة اسم الدكتور محمد غنيم ومركز الكلى الذي اقامه في مدينة المنصورة.شعرت بالخجل والاعتزاز عندما حدثني عنهما بانبهار شديد صديق كان شقيقا لاحد مرضاه.اذ لم يخطر على بالي ان يكون في مصر صرح طبي بالتميز الذي سمعت به.

وطوال السنوات العشر الاخيرة ظللت اتابع اداء الرجل الذي وقف وراء ذلك العمل الكبير.وكان اكثر ما قدرته فيه، فضلا عن مكانته العلمية الرفيعة، عزوفه عن الاضواء وحرصه على ان يؤدي رسالته الجليلة في صمت.
ولا اعرف كيف قاوم ذلك العالِم الزاهد فتنة الشهرة والثراء التي استسلم لها ولهث وراءها غيره، وكيف انه قرر ان يقيم صرحه الطبي في قلب الدلتا بعيدا عن جاذبية القاهرة واغراءاتها.

كذلك سمعت في الفترة ذاتها باسم «لجنة الاغاثة» في نقابة الاطباء، مرة في السودان واخرى في البوسنة وثالثة في اذربيجان.وعلى الرغم من ان اسمها ليس مألوفا في مصر، سواء لان القائمين عليها آثروا اثبات الحضور في ارض الواقع باكثر من حضورهم في وسائل الاعلام، او لان اكثر نشاطها موجه الى الخارج، فانني وجدت في اداء تلك اللجنة نموذجا آخر للذين نذروا انفسهم للتفاني في اغاثة الفقراء والملهوفين وتوظيف المعرفة في الخدمة المباشرة للناس.
اما الذي فعله الدكتور مجدي يعقوب فقد كان مدهشا حقا.اذ فاجأنا ذلك الجراح النابه الذي هاجر من مصر وذاع صيته في انجلترا، حتى منحته الملكة لقب «سير»، بانه قرر اقامة مركز لجراحة القلب في اقصى صعيد مصر.وكأنه حين اختار اسوان فانه اراد ان يعمل في ابعد نقطة عن اضواء القاهرة، وان يعطي لغيره درساً عملياً في الوفاء والمسؤلية.
ان بعضا من هؤلاء النابهين المهاجرين يأتون الى مصر للسياحة حينا، ولاعطائنا النصائح والمواعظ حينا اخر، وللظهور في برامج التلفزيون وحضور الحفلات والمنتديات في حين ثالثة.
لكن الدكتور مجدي يعقوب عزف عن كل ذلك.وبدا كأنه نسيج وحده.فلم يكتف باقامة الصرح الطبي، فحسب، ولكن النموذج النبيل الذي قدمه، شجع آخرين من العلماء المصريين المهاجرين على الانضمام اليه، والاسهام فيما يقدمه المركز من خدمات.
علمت ان المركز يجري 600 عملية قلب مفتوح بالمجان سنوياً.منها 300 عملية للاطفال (لاحظ ان العملية في الظروف العادية تتكلف عدة الوف من الجنيهات).ذلك بالاضافة الى دوره في البحوث والتدريس وتقديم الخدمات الصحية المتميزة لمرضى القلب في مصر والدول العربية والافريقية.
اذ خلال الاشهر الماضية اجرى المركز 240 عملية جراحية مجانية، 50%منها للاطفال من مختلف محافظات مصر، وبعض الدول الاخرى.علمت ايضا ان المركز استضاف فريقا طبيا مصريا- كنديا، اجرى خبراؤه 70 عملية جراحية.ولايزال يؤدي رسالته النبيلة قانعا بالصمت وراضيا بالظل.
(3)في الاسبوع الماضي عادت الابتسامات الى وجوه اهالي قرية كفر العرب بمحافظة دمياط، التي كان الحزن قد خيم عليها خلال السنوات الاخيرة، بعدما ضاقت عليهم ابواب الرزق، وبدا كان الدنيا اسودت في وجوههم.
ذلك ان اهالي القرية التي اشتهرت بتربية الماشية وتصنيع الاجبان ادركوا ان اسعار الاعلاف زادت بحيث تجاوزت حدود احتمالهم.فما كان من المربيين الا ان اتجهوا الى التخلص من قطعان الماشية بالذبح.وادى ذلك الى اغلاق نصف مصانع منتجات الالبان في القرية.
لكن ازمتهم بدات في الحل بعدما نجح بعض الباحثين في تصنيع علف جديد للماشية بجودة عالية، من البواقي الزراعية في القرية التي كانت تحرق او تُلقى كمهملات في كل موسم.
هذا الجهد وراءه قصة غريبة ومدهشة ايضا، ابطالها مجموعة من الباحثين المغمورين الذين اختاروا منذ سنوات ان يحاربوا الفقر في معاقله، وبايدي الفقراء انفسهم، فشمروا عن سواعدهم واستخدموا معارفهم العملية وخبراتهم لحفر مسار جديد للتفكير والتطبيق، وبدأوا رحتلهم منذ نحو عشرين عاما.صحيح انهم لم يغيروا شيئا في اوضاع المجتمع المصري، لكنهم زرعوا «فسائل» للامل في بعض انحاء مصر، والتزموا بنهج النمل في التحرك والبناء.
الفكرة المحورية في مشروعهم كالتالي:
ان مصر بلد زراعي في الاساس، وريفها هو الاكثر معاناة من الفقر والتخلف والبطالة، والزراعة لها مخلفاتها التي تهمل وتحرق وتتحول الى نقمة احياناً، على الرغم من انها تشكل ثروة لمن يعرف قيمتها.ولانهم يعرفون جيدا قيمة تلك الثروة، فقد اتجهوا الى تصنيع البواقي الزراعية، منطلقين من انها تمثل شريانا للانعاش الاقتصادي في مصر الاخرى.
في دراستهم المرجعية وجدوا ان البواقي الزراعية في مصر تقدر سنوياً بحوالي 72مليون طن كاحطاب (حطب الذرة والقطن) او عروش (بنجر السكر والطماطم والبطاطس) او قشر (القمح والارز)- وللعلم فان مصاص القصب وحده يقدر بحوالي 30 مليون طن.
اضف الى ذلك ان الفلاحين يلجأون عادة الى تشوين تلك البواقي في حواف الحقول تمهيدا للتخلص منها، بما يقتطع من الرقعة الزراعية نحو 88 الف فدان، كان من الممكن ان تزرع قمحا.
هؤلاء الباحثون المغمورون، الذين لم تعرف لهم أسماء ولم تر لهم صور، يجوبون ارجاء «مصر الاخرى» منذ بداية التسعينيات، باحثين عن الكيفية التي يمكن بها احياء الموات في القرى الفقيرة، بحيث يتحول اهلها من قاعدين خاملين الى منتجين، ومن يائسين الى فاعلين.

في عام 1993 اقاموا معرضا لتصنيع الواح خشب «الكونتر» من جريد النخيل.ونجحوا في اقناع سكان القرى الغنية بالنخيل بان الجريد الذي يجفف ويحرق يمكن ان يكون خامة لصناعة تدر عليهم دخلا طيبا، وتغنى عن استيراد خشب الكونتر من الخارج.
وحين نجحت تجاربهم وظهرت الواح الخشب الكونتر الى النور، فانهم حصلوا على شهادات بجودة المنتج من معهد بحوث الاخشاب في ميونيخ،
وحصلوا على جائزة من مؤتمر المواد الذي انعقد في ماسترخت بهولندا عام 1997.واقاموا معرضا لمشروعات منتجات المشربية (الارابيسك او الخرط العربي) في كل من محافظتي الوادي الجديد والفيوم.

ايضا في عام 2006 نجحوا في استخدام حطب القطن كمادة صناعية.واستطاعوا تشغيل احد مصانع الاسكندرية للخشب الحبيبي بذلك الحطب، بديلا لاخشاب الكازوارينا التي اشرفت كمياتها المتاحة على النضوب. من ثم، فبدلا من الحرق المكشوف للحطب المسبب للسحابة السوداء، فان ذلك الحطب اصبح له سعر وفائدة.
في عام 1998 نفذوا مشروعا لاستخدام نواتج تقليم أشجار الفاكهة بديلا للاخشاب المستوردة.ووظفوا في ذلك اخشاب 7 انواع من الفاكهة وصنعوا منها اخشابا تنافس خواص خشب الزان الذي تستورده مصر بما قيمته 4 مليارات جنيه سنوياً.
في عام 2006 قاموا بتجربة ناجحة اخرى.ذهبوا الى بلدة شماس بمرسى مطروح، التي تعد واحدة من افقر عشر قرى في مصر، ووجدوا ان التين فيها بلا ثمن لكثرته، ولاحظوا ان الفائض منه يلقى في الشوارع، فرتبوا لبعض سيدات القرية بالتعاون مع كلية الزراعة بجامعة الاسكندرية، كيف يمكن ان يتحول التين الى مربى.واستطاعت ثلاث سيدات تصنيع 15 طن مربى في شهرين، حققت المواصفات العالمية في الغذاء.
ذلك كله لم يشعر او يسمع به احد.لكن فريق النمل الذي يقوده الدكتور حامد الموصلي الاستاذ غير المتفرغ بهندسة عين شمس لم يتوقف عن السفر مع مساعديه الى قرى الفقراء ومحاولة استخراج الامل من البؤس واليأس.وهم يحلمون بنشر فكرة تصنيع البواقي الزراعية (البيو فيبرز) التي تستثمر تلك الثروة المجهولة في العديد من الصناعات المهمة التي تشكل نقلة مهمة ليس فقط في حياة القرى الفقيرة، ولكن ايضا في مسار النهوض بالمجتمع وتطوره.
(4)اكتشفت ان الجمعية الشرعية في مصر تقف على راس جيوش النمل التي ما برحت تبنى في صمت منذ مائة عام.ونبهني الى ذلك ان القائمين عليها اقاموا احتفالا متواضعا بهذه المناسبة في مقرهم بالقاهرة، تجاهلته وسائل الاعلام، ونشرت وقائعه مجلتهم «التباين» في عددها الشهري الاخير.
واثار انتباهي في انشطة الجمعية حجم الدور التنموي الذي تقوم به، جنبا الى جنب مع دورها الدعوي التقليدي.
بدا ذلك الدور التنموي مفاجئا ومدهشا.فهم يكفلون 560 الف يتيم في مصر، وينفذون من اموال الزكاة مشروعا للمراكز الطبية المتخصصة، التي لا تعالج الفقراء فحسب، ولكن غير القادرين ايضا، بغير تمييز بين المسلمين والمسيحيين.(جلسة الكيماوي الواحدة لمرضى السرطان تتكلف 5 آلاف جنيه).وتقدم خدماتها يوميا لمائة مريض بالعلاج الاشعاعي و30 مريضا بالكيماوي.والاخيرون يكلفون الجمعية ما يجاوز 5 ملايين جنيه كل شهر.
ومن خلال لجنة الاغاثة بنقابة الاطباء، فانهم اوصلوا المعونات الى العديد من دول افريقيا وآسيا.في ذات الوقت فانهم يكفلون عشرة آلاف طالب وافد، فيقدمون لهم رواتب شهرية الى جانب الاقامة الكاملة والرعاية الصحية، ويعلمونهم العربية.وقد حصل 50 واحدا منهم على شهادة الدكتوراه.
قائمة العطاء طويلة.فلديهم مشروع لتنمية رؤوس الماعز، التي يتم توزيعها على الفقراء والمعدمين (لديهم 82 وحدة تستوعب الواحدة 215 راسا).كما انشات الجمعية 50 محطة لمياه الشرب، تكلفت الواحدة 150 ألف جنيه، وتغذي 12 الف نسمة.
لست أشك في أن مصر تحفل بمثل هؤلاء البنائين العظام الذين لم ينتظروا منا تشجعيا ولا تصفيقا، فمن واجبنا ان نسجل أسماءهم بحروف من نور، وان نقول لهم شكرا،
ليس فقط لما يعملونه، ولكن ايضا لانهم ذكرونا بانه لايزال فينا خير كثير، يمنحنا شعاع امل وسط الظلمة التي نغرق فيها.

تركيا نموذج لمكر التاريخ – فهمي هويدي

الصعود التركى المشهود من دلائل مكر التاريخ.
كانت تلك خلاصة ما قلته حين دعيت للمشاركة فى جلسة خصصت للشأن التركى، فى ندوة دعا إليها «منتدى الجزيرة» فى الأسبوع الماضى، كان عنوانها «الرؤى البديلة للعالم العربى والإسلامى».

خلاصة الفكرة التى أردت توصيلها هى أن كل الشواهد كانت تدل على أن التاريخ ماضٍ فى اتجاه معين، وأن العالم العربى بدا وكأنه مرشح للافتراس وقابل للفتك والانقضاض، ولكن الظهور التركى المفاجئ قلب الطاولة، وأربك الحسابات والسيناريوهات المرشحة، فالاتحاد السوفييتى انهار والعرب أصبحوا بلا صديق والولايات المتحدة متورطة فى أفغانستان والعراق وفى أزماتها الداخلية، وإيران محاصرة ومصنفة أمريكيا فى «معسكر الشر» ومصر انكفأت على ذاتها وخرجت من المشهد العربى.
اضافة إلى أن النظام العربى انهار والدول العربية أصبحت معسكرين متنافرين ما بين الاعتدال والممانعة،
أما القضية الفلسطينية فقد تراجعت أولويتها وتعاملت معها أغلب الأنظمة باعتبارها عبئا تريد الخلاص منه والتحلل من تبعاته، فضلا عن أن السلطة الفلسطينية باتت عاجزة عن الفعل والحركة، وأصبح اعتمادها على الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل أكثر من تعويلها على الشعب الفلسطينى والتأييد العربى.
لم يقف الأمر عند حدود التغيير فى الخرائط السياسية، ولكنه شمل أيضا بعض القيم السائدة، فالمقاومة صارت مستهجنة من قبل بعض الأنظمة وإرهابا عند أنظمة أخرى. والتطبيع مع إسرائيل أصبح وجهة نظر يتبناها البعض ويرفضها آخرون والاستتباع للولايات المتحدة صار مرحبا به، والقواعد العسكرية الأجنبية لم تعد شذوذا ولا خطيئة،
وفى ظل شعار بلدنا أولا ــ مصر والأردن أو لبنان وغير ذلك ــ أصبح التفريط فى الأمن القومى العربى أمرا مقبولا ومحتملا. بل إن فكرة التحرر الوطنى ذاتها أصبحت ملتبسة وغريبة على بعض الاذهان، إلى غير ذلك من القرائن التى تدل على مدى الوهن والفساد فى الوضع العربى، الذى كانت الأزمة/ الفضيحة التى شوهت العلاقة بين مصر والجزائر بسبب مباراة كرة القدم من تداعياته.
فى هذا الاجواء ظهر حزب العدالة على المسرح، وشكلت قيادته الحكومة فى عام 2003 بأغلبية مشهودة، فخطفت الأبصار، خصوصا حينما أدرك الجميع عزم القيادة الجديدة على القيام بدور فاعل فى المنطقة، ثم حين تبنت موقفا نزيها ازاء القضية الفلسطينية، وهو ما كان له صداه ورنينه القوى فى الفضاء والحيرة المخيمين، عززت من أهمية ذلك الدور أربعة عوامل،

الأول أن الحكومة جاءت مستندة إلى أغلبية شعبية قوية، لم تكن مألوفة فى الساحة التركية، الأمر الذى شجعها على أن تتحرك باطمئنان وثقة معتمدة على ذلك التفويض الشعبى الواسع.
الأمر الثانى أن النموذج الذى قدمه حزب العدالة بخلفيته الإسلامية لقى قبولا من الناس. ذلك أنه لم يخاطب الجماهير بلغة الوعظ والارشاد، لكنه بنى مشروعه ورصيده على السعى الدءوب لنفع الناس وتلبية احتياجاتهم، ولذلك كان تركيزه على الانجاز الاقتصادى ضمن أولوياته.
الأمر الثالث أن الحزب بادائه أسقط معادلة التعارض بين الإسلام والديمقراطية، حيث خاض الانتخابات البلدية أولا والتشريعية ثانيا منطلقا من التسليم بقواعد اللعبة الديمقراطية ومبادئها.
الأمر الرابع أن حكومة حزب العدالة اتجهت إلى المحيط العربى والإسلامى، دون أن تفرط فى حرصها على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى، صحيح أنها بدأت بمجالات التعاون الاقتصادى، وسعت إلى الغاء تأشيرات الدخول مع أربع دول عربية هى سوريا ولبنان والأردن وليبيا، لكنها ما لبثت أن أصبحت حاضرة بقوة فى مختلف عناصر المشهد السياسى.
إن الديمقراطية هى التى مكنت حزب العدالة من تطوير وانضاج مشروعه وبرنامجه السياسى،
وهى التى جاءت به إلى البلديات أولا ثم إلى البرلمان ورئاسة الحكومة بعد ذلك.
وهى التى فرضت على قيادة الحزب ممثلة فى عبدالله جول رئيس الجمهورية ورجب طيب أردوغان رئيس الوزراء أن يعبرا عن مشاعر الناس وغضبهم، خصوصا ازاء الموضوع الفلسطينى، الذى أصبح أردوغان من أفضل المتحدثين عنه،
ومن ثم فإن الديمقراطية حين أخذت على محمل الجد (لا تقارن من فضلك) كانت عنصرا فاعلا فى إفساد المخططات والسيناريوهات المرسومة فى الخارج، وجعلت المجتمع مساهما فى صنع التاريخ وليس متفرجا عليه.

انتصار آخر لغزة – فهمي هويدي


ينبغي أن نتوجّه بالشكر إلى الذين نظموا رحلة «أسطول الحرية»، لأنهم أيقظونا من سُباتنا وغيبوبتنا، وذكّرونا بقطاع غزة والحصار الإجرامي المضروب عليه، بعدما كاد كثيرون منا ينسون الموضوع في ظل التعتيم والتشويه اللذين نتعرض لهما منذ ثلاث سنوات،
ذلك أن ما جرى أعاد فضيحة الحصار إلى عناوين الصحف وصدارة قنوات الأنباء في أنحاء العالم، وفضح الصمت الإعلامي الرسمي العربي، الذي اشترك في الحصار، جنبا إلى جنب مع الإسهام في الحصار على الأرض، من خلال إغلاق معبر رفح وهدم الأنفاق وبناء السور الفولاذي الذي أريد به قطع الطريق على وصول أي إمدادات إلى غزة.

الأمر لا يُفسر إلا بمفارقات الأقدار وسخرياتها، ذلك أن الجهد الذي بُذل خلال السنوات الثلاث الأخيرة بوجه أخص، لاعتبار الحصار أمرا عاديا وأسلوب حياة مقبولا وغير مستغرب في العالم العربي،
كما اعتبر تقديم العون للمحاصرين تهمة يلاحق البعض بسببها، فيعتقلون وتلفق لهم القضايا،
أما الذين عبروا عن تضامنهم مع المحاصرين، فإن «جريمتهم» كانت من الجسامة بحيث قُدِّم بعضهم إلى المحكمة العسكرية، كما حدث مع زميلنا الأستاذ مجدي حسين، الذي ينفذ الآن عقوبة السجن لثلاث سنوات بسبب اقترافه تلك «الجريمة»،

ليس ذلك فحسب، وإنما جرت محاولة تعبئة الرأي العام لكي يستقبل حديثا عن استئناف مسيرة السلام، ولكي يقتنع بأن إسرائيل لم تعد خطرا يهدد العالم العربي، وأن قنابلها النووية ليست سوى قنابل «صديقة»، في حين أن الخطر الحقيقي والدائم مصدره إيران ومشروعها النووي الذي لايزال جنينا في بطن الغيب..

ذلك كله انهار وانفضح الكذب والإفك فيه، دون أن يكون للعرب فيه يد، إذ شاء ربك أن يقوم العجم بما نسيه العرب، وأن يحمل النشطاء الشرفاء في العالم الغربي الأمانة التي فرط فيها «الأشقاء» في العالم العربي، فيعلنون رفض الحصار ويعتبرون إقامته أو الإسهام فيه جريمة أخلاقية وإنسانية قبل أن تكون سياسية ـ ويتنادون فيما بينهم لكي يحملوا بسواعدهم وعلى أكتافهم كل ما قدروا عليه من مؤن وأدوية ومستلزمات لاستئناف الحياة
ـ ثم لكي يسعوا إلى كسر الحصار الذي ألفناه ولم نعد نكترث به، عوضوا انكسارنا بما تمتعوا به من شجاعة ونبل، ولم يأبهوا باستسلامنا وانهزامنا، فركبوا سفنهم وقرروا أن يتحدوا غطرسة إسرائيل واستعلاءها. وحين باغتتهم بهجوم الفجر الدامي، الذي قتلت فيه قواتهم بعض النشطاء وجرحت آخرين واعتقلت الجميع،
فإن سخرية الأقدار بلغت ذروتها، إذ انفضح القبح الإسرائيلي وانكشفت الدمامة فيه ليس فقط أمام العرب وحدهم، وإنما أمام العالم أجمع. ولم يكن الإسرائيليون وحدهم الذين سقطوا، وإنما سقط معهم كل «المعتدلين» الذين تحالفوا معهم وراهنوا عليهم، وساعدوهم على تسويف أكذوبة الصديق الإسرائيلي والعدو الإيراني!

صحيح أن العربدة الإسرائيلية ليست جديدة علينا، ولكن الغباء الإسرائيلي هو الذي فاجأنا، ذلك أنهم حين انقضّوا على السفينة «مرمرة»، وفعلوا ما فعلوه ظنا منهم أنهم أجهضوا المسيرة وسحقوا جموع الناشطين، فإنهم عمموا الفضيحة وخسروا معركتهم سياسيا وإعلاميا.
ذلك أنهم لم ينقضّوا عليهم ويقتلوهم في المياه الدولية فحسب، ولم يفتكوا بهم وهم المدنيون العزل فحسب، ولكنهم أعلنوها حربا ضد الشرفاء والنشطاء في العالم بأسره، أولئك الذين قدموا من 40 دولة لمواساة المحاصرين ونصرتهم.

كأن الغرور أعمى الإسرائيليين. فدفعهم إلى الإقدام على عملية انتحارية خرجوا منها خاسرين بالكامل، في حين كسبت القضية الفلسطينية مزيدا من الأنصار، وعادت غزة إلى صدارة الأخبار، وأصبح فك الحصار عليها مطلبا دوليا ملحّا،

وبذلك فإنها حققت انتصارا آخر أهدته الأقدار إليها رغما عن الجميع، ثم إنهم باستهدافهم السفينة «مرمرة» دون غيرها،
فإنهم خسروا تركيا أيضا، التي أصبحت النصير الأكبر للقضية الفلسطينية في وقت خلا فيه مقعد «الشقيقة الكبرى»

مصر الرائدة «سابقًا» – فهمي هويدي


خلال الأسابيع القليلة الماضية تعددت زيارات المسؤولين العراقيين للرياض لمناقشة أوضاع ما بعد الانتخابات التشريعية.
قبل الانتخابات زارها رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوى. وبعدها قام الرئيس العراقى جلال طالبانى بزيارتها. وما كاد يغادر حتى كان مسعود البرزاني رئيس حكومة إقليم كردستان ضيفا على العاهل السعودي. وقبله كان وفد من التيار الصدري قد قام بزيارته.
وخلال تلك الزيارات التقى المسؤولون العراقيون مع كبار المسؤولين السعوديين، ما بين الملك عبدالله ووزير الخارجية الأمير سعود الفيصل، الذي اكتفى بتصريح قال فيه إن المملكة ليس منحازة إلى أحد في العراق لكنها تحتفظ بمسافة واحدة مع كل الأطراف.

هذا الحضور السعودي في المشهد الانتخابي العراقي يقابله حضور إيراني قوي، الأمر الذي يعني أن البلدين أصبحا لاعبين أساسيين في الساحة العراقية، بعد الولايات المتحدة بطبيعة الحال.
وهذا التنافس السعودي الإيراني تكرر في لبنان. في الانتخابات التشريعية والبلدية. علما بأن الدور السوري لايزال على قوته هناك، وقد ازداد في الآونة الأخيرة، خصوصا بعد الزيارة التي قام بها وليد جنبلاط إلى دمشق، بعد طول قطيعة وخصام. وثمة تحضير الآن لزيارة لا تقل أهمية سيقوم بها رئيس الوزراء سعد الحريري للعاصمة السورية.

حين يجول المرء ببصره في أرجاء العالم العربي، سوف يلاحظ أن قطر كان لها دورها النشط على أكثر من جبهة، في المصالحة بين الحوثيين والحكومة اليمنية، وبين الفرقاء اللبنانيين بعضهم البعض، وبين متمردي دارفور والحكومة السودانية وفي دعم المحاصرين في غزة.
وسيجد أن لندن رعت واستقبلت مؤتمرا لبحث الأزمة اليمنية. وأن كينيا كانت لاعبا رئيسيا في تحديد مستقبل جنوب السودان بشماله من خلال اتفاقيتي ماشاكوس ونيفاشا، كما أن ليبيا كان لها دورها في المصالحة بين تشاد والسودان.
ورغم أن دولتين عربيتين لهما علاقاتهما الديبلوماسية مع إسرائيل، هما مصر والأردن، فإن الذي قام بالوساطة بين سورية وإسرائيل كانت تركيا.

لا يكاد المرء يجد ذكرا لمصر في هذه العناوين، الأمر الذي يثير الانتباه والدهشة أيضا. وهذا الغياب من دلائل حالة الانكفاء على الداخل، كما أنه شهادة على تراجع الدور المصري في العالم العربي.
وليس الأمر مقصورا على الساحة السياسية لأننا فوجئنا خلال السنوات الأخيرة بأن الجامعات المصرية، التي كانت بدورها رائدة يوميا ما، خرجت من تصنيف الجامعات المحترمة في العالم، وأن جامعات بعض الدول الأفريقية الناشئة تقدمت عليها وأثبتت حضورا مشهودا في القائمة، وسبقت هذه وتلك بعض الجامعات الإسرائيلية.
وحين قرأت أن شركة مقاولات تركية فازت بعقد تجهيز المنشآت اللازمة لعقد القمة العربية في مدينة سرت الليبية، وأنجزت خلال تسعة أشهر كل القصور والفيلات المطلوبة ومعها حي سكني كامل، كان السؤال الذي شغلني هو:
لماذا لم يعد هناك ذكر لـ«المقاولون العرب» في العالم العربي؟

ذلك حاصل بدرجة أو أخرى في المجال الإعلامي، حيث ألغت قناة «الجزيرة» مثلا أي تأثير للتليفزيون المصري، وتقدمت المسلسلات التركية والسورية على المسلسلات المصرية. بل إن المطربين اللبنانيين غزوا القاهرة وأصبحوا منافسين أقوياء لنظرائهم المصريين، بحيث أصبح أملنا في التفوق وإثبات الحضور معقودا تقريبا على المنتخب القومي لكرة القدم!

حتى نكون أكثر دقة، لا يفوتنا أن نسجل أن مصر أثبتت حضورا في مجالات أخرى لا تشرفها كثيرا، فهي لاتزال بين الرواد في احتكار السلطة وتطبيق قوانين الطوارئ والتعذيب والاعتقالات، وفي مؤشرات الفساد وتزوير الانتخابات.

هذه الصور تفرض نفسها على الذاكرة كلما تجدد الحديث عن ريادة مصر التي هي حقيقة بأمر الجغرافيا والتاريخ، لكن الأمانة تقتضي أن نعترف بأن مصر الرائدة ليست مصر الراهنة. أعني أن مصر كانت رائدة حين كانت فاعلة ومستوفية لشروط الريادة واستحقاقاتها باعتبار أن الريادة وظيفة وليست لقبا.
أما حين خرجت مصر من الصف العربي بتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد عام 1979، فإنها انكفأت على ذاتها واستقالت عمليا من موقع الريادة، وأصبحت سياستها الخارجية محصورة في الالتحاق بمعكسر «الاعتدال» وتنفيذ السياسة الأميركية في المنطقة.
من ثم فإن الكلام عن ريادتها يكاد يفقد معناه، ويصبح داعيا إلى الحسرة والحزن بأكثر منه للثقة والاعتزاز. لهذا تمنيت على وزير الخارجية المصري السيد أحمد أبوالغيط حين يتطرق إلى هذه النقطة أن يكون أكثر تواضعا وحذرا، لأن مصر الكبيرة التي يلوح بها في أحاديثه الحماسية غير تلك التي يشير إليها الآن.

22 يناير 2010

خطاب لن يلقيه مبارك

 أيها المواطنون..
في حين يُقبل العالم على عام ميلادي جديد، ويودِّع عامًا شهد أحداثًا جسامًا؛ فإن الأمل يحدونا أن تشهد بلادُنا في مقتبل الأيام والشهور ما تصبو إليه من سلامٍ ورخاءٍ ورفعةٍ؛ إلا أن الرياحَ التي هبَّت علينا خلال الأيام الأخيرة أضعفت كثيرًا من ذلك الأمل؛ على نحوٍ أعاد إلى الأذهان صفحة الصراع الدامي والخصومة المريرة، التي ظننَّا أنها في سبيلها إلى الزوال، بعد الجهد الكبير الذي بذلناه لإحلال السلام وإعادة الثقة ومدِّ جسور الفهم والتفاهم في المنطقة؛ إذ تعلمون أننا ظللنا طوال الوقت نلوِّح باليد الممدودة، ونعبِّر عن حسن النوايا.

30 ديسمبر 2009

نحسدهم في تايلاند – فهمي هويدي

إذا كان لي أن اختار لنفسي شعاراً هذا الأسبوع لقلت انني لو لم اكن مصريا لوددت أن اكون تايلانديا، وهو آخر ما كنت اتوقعه على صعيد شخصي، لان خبرتي بتايلاند كانت سلبية إلى حد ما. ذلك ان انطباعاتي عنها ظلت متأثرة بما رأيته فيها خلال السبعينيات، حين كانت ماخوراً كبيراً دأب الجنود الأميركيون الذين كانوا يحاربون في فيتنام على قضاء عطلاتهم فيها، فعاثوا فيها فساداً، حتى حولوا الأرض المحررة - الترجمة العربية لكلمتي تاي لاند - إلى بلد للمتعة واشباع الشهوات بكل أشكالها. وهي السمعة التي مازالت تلاحق عاصمتها بانكوك حتى هذه اللحظة.

 لكن التطورات الأخيرة هناك سلطت الضوء على وجه آخر للبلد، كشف عن حيوية سياسية مدهشة كانت مفاجأة بالنسبة لي. ذلك ان احزاب المعارضة هناك احتشدت في تجمع اطلقوا عليه «تحالف الشعب من أجل الديموقراطية» وقرروا تحدي الحكومة الفاسدة التي جاءت بالتزوير، واصروا على اجبارها على الاستقالة، ومن ثم فإنهم نظموا خلال الأشهر الستة الأخيرة سلسلة من الاضرابات والحملات الاحتجاجية التي لم تحدث صداها المطلوب في فضح الحكومة واسقاطها. فلجأوا إلى خطوة أخرى احرجتها وفضحتها أمام الرأي العام العالمي. اذ قرروا احتلال المطارين الاساسيين في العاصمة ـ مطار سونارنا هومي الدولي ومطار دون موانج الذي يستخدم للطيران الداخلي ـ وحشدوا انصارهم على الطريق المؤدي إلى المطارين للحيولة دون وصول الشرطة اليهما.

في الوقت ذاته فإن قادة المعارضة دعوا مجموعات اخرى من انصارهم للتجمع امام مقر الحكومة تحسبا لاحتمال اقتحام الشرطة للمطارين، ولكي تقوم تلك المجموعات بمواصلة رسالة الاحتجاج، اذا تم الاقتحام وعادت حركة الطيران فيهما الى حالتها الطبيعية. بينما تصعيد حملة الاحتجاج مستمر الى الدرجة التي أدت الى إحداث شلل اقتصادي في البلاد الى جانب الشلل السياسي، كانت المحكمة الدستورية تنظر قضية رفعها التحالف ضد الحكومة، اتهمها فيها بتزوير الانتخابات التي تمت في العام الماضي.

وكانت المفاجأة ان المحكمة اصدرت حكمها يوم الثلاثاء 2 – 12  بحل الائتلاف الحزبي الحاكم واقالة رئيس الوزراء «سوشاي وونجساوات» من منصبه ومنعه مع 59 مسؤولا تنفيذيا آخرين ـ منهم 24 نائباً في البرلمان ـ من ممارسة العمل السياسي. واستندت المحكمة في قرارها الى نص في الدستور يقضي بحل أي حزب في حال إدانة أحد مسؤوليه بتزوير الانتخابات. وقال القاضي شات تشونلاورن رئيس المحكمة الدستورية، المكونة من تسعة قضاة، ان قرار المحكمة صدر بالاجماع، بعدما ثبت لديها ان احزاب الائتلاف الحاكم قامت بتزوير الانتخابات، وان المحكمة بالحكم الذي اصدرته تضع نموذجا ومعيارا سياسيا يقوم على ان الاحزاب غير النزيهة تدمر النظام الديموقراطي وتعطل مسيرة العمل الوطني.

طوال الأشهر الثلاثة الماضية ظللت أتتبع المظاهرات والاحتجاجات في بانكوك، معجبا بقوة المجتمع المدني هناك، ونضج قواه السياسية المعارضة التي استطاعت ان تتفق على هدف مشترك، وان تظل متماسكة طوال الوقت، ومصرة على اسقاط الحكومة التي جاءت بالتزوير من خلال الاحتجاج السلمي في الشارع، والنضال في ساحة القضاء، الامر الذي حقق لهم في النهاية ما يريدون.

وهذا الاعجاب، الذي اقترن بالغيرة والحسد، هو الذي دفعني الى تغيير رأيي السابق إلى الحد الذي تمنيت فيه أن أكون تايلانديا هذا الاسبوع. وهو الشعور ذاته الذي انتابني ذات يوم حين جرت انتخابات ديموقراطية نزيهة في موريتانيا، فتمنيت ان اكون موريتانياً، وحين حقق حزب الله نصره على الاسرائيليين فتمنيت أن أكون لبنانيا، ولا أعرف إلى متى سيطول انتظارنا حتى يبزغ فجر الديموقراطية عندنا، بما يمكن الواحد منا من أن يستعيد شعوره بالعزة، بحيث يردد مقولة الزعيم مصطفى كامل: لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا

26 ديسمبر 2009

الشيطان الأصغر – فهمي هويدي

صحيفة الشرق القطريه السبت 11 ذو الحجة 1430


أرأيت الذي فعلته بنا وسائل الإعلام، حين لوثت مشاعرنا إزاء أشقائنا وخربت وعينا وأشاعت بيننا المرارة والبغضاء. ودفعتنا إلى مشارف القطيعة، وهي التي نفذت إلى حياتنا باعتبارها وسائل "للاتصال".

إذ ليس جديدا ذلك التوتر الذي يشيع بين الناس بسبب مباريات كرة القدم، لكن الجديد هذه المرة أن الفضائيات دخلت على الخط فأججت الحماس واستدعت إلى ساحة "المواجهة" قطاعات عريضة من المواطنين، لم تكن مباريات كرة القدم تمثل شاغلا أساسيا لها. وأقنعت الجميع بأن الفوز بالكؤوس والبطولات بات مسألة حياة أو موت بالنسبة للشعوب، بها تدخل التاريخ وبدونها تصبح بلا قيمة أو ذكر.

وقد أشرت قبلا إلى نص نشرته جريدة الأهرام قال فيه كاتبه إن فقراء مصر -لاحظ تخصيصه للفقراء- لم يعودوا يطلبون شيئا في حياتهم سوى أن تفوز مصر على الجزائر والتأهل لكأس العالم.

حدث ذلك في مصر بوجه أخص، لأن التليفزيون بقنواته الثلاث في الجزائر مملوك للدولة. وقد التزم الصمت إزاء ما جرى طوال الاسابيع الماضية، شأنه في ذلك شأن الصحف الرسمية وتعامل هؤلاء، وهؤلاء مع الأحداث بشكل خبري عادي، بعيدا عن الاشتباك والتراشق والإثارة، لكن الصحافة الخاصة المسموح بها هناك، هي التي أثارت الضجة، حين روجت للاكاذيب وتحولت إلى منبر لاشاعة التعصب والتشهير والبغض، للدقة فإن صحيفة أو اثنتين في الجزائر قادتا تلك الحملة الخبيثة سعيا وراء الاثارة أو التحريض والوقيعة.
وقد نجحت الصحيفتان للأسف الشديد في استدراج الإعلام المصري إلى الاشتباك الذي تدنى فيه مستوى التراشق، واستخدمت فيه أوصاف هابطة، واتهامات بذيئة، وهذه كانت عنصرا مهما في تعميق الشرخ وإشعال نار الفتنة.
ولأن الهبوط اسهل كثيرا من الصعود فإن بعض مقدمي البرامج تنافسوا في الاسفاف والتجريح واستبد بهم الانفعال حتى ذهبوا بعيدا في تجاوز الحدود المهنية والأخلاقية.

كان التليفزيون هو أهم أسلحة التعبئة والتحريض، لأنه الوسيلة الأسهل والأكثر جاذبية والأخطر في التأثير، ولذلك استحق أن يوصف بأنه "الشيطان الأصغر" الذي أشاع الفتنة وسمم مشاعر المواطنين العاديين، الذين لم تكن لديهم مشكلة يوما ما مع الجزائر، بل كانوا يذكرونها بكل اعتزاز وتقدير، وإذا بهم لا يطيقون ذكرها، بعدما شحنهم البث التليفزيوني بفيروسات النفور والمرارة.

لا أبالغ إذا قلت إن الإعلاميين هزموا المثقفين ونجحوا في أن ينقلوا الوباء إلى بعضهم. صحيح أن النداء الذي وجهه المثقفون في أواخر الاسبوع الماضي أثبت أن قاعدة عريضة منهم مازالت محصنة ضد السوقية والابتذال، ومن ثم مازالت محتفظة بوعيها وسلامة إدراكها، إلا أن هناك اختراقات محزنة لذلك الموقف ظهرت بوادرها في الاسبوع الماضي.

إذ صدمت حقا واستغربت جدا أن يقدم المحامون على احراق العلم الجزائري، وهو التصرف الذي استهجناه حين صدر عن بعض الغوغاء الجزائريين الذين أحرقوا العلم المصري،
ودهشت حين قرأت أن قسم اللغة العربية بكلية آداب عين شمس قرر وقف استقبال الطلبة الجزائريين لحين صدور اعتذار رسمي من حكومة بلدهم،
وتملكتني نفس الدهشة حين علمت أن أساتذة جامعة الأزهر طلبوا من الحكومة المصرية قطع علاقاتها مع الجزائر.

واختلطت الدهشة بالحزن حين قرأت مقالة مثقف محترم هو الدكتور يوسف زيدان التي نشرتها صحيفة "المصرى اليوم" في 25 /11 حين وجدت أنه تبنى فيها خطاب النفور والتحقير الذي انطلق منه مقدمو برامج التليفزيون،
إذ قال مثلا إن مصر انفقت من أموالها لكي تجعل الجزائريين عربا (رغم انهم قاتلوا الفرنسيين بشراسة دفاعا عن عروبتهم)،
 ووصف الجزائريين الذين عرفهم في مرحلة الدراسات العليا بانهم "مثال للغباء والتعصب"،
كما وصف الجزائر البلد بأنها "الوجود القاحل"،
 بل دعا إلى قطع العلاقات معها، معتبرا أن ذلك لن يضر مصر في الأجلين القريب أو البعيد.

إننا لانستطيع أن ندين الإعلام ونغلق الملف، لاننا ينبغي ألا نتجاهل السؤال:
ما هي طبيعة وحدود العلاقة بين الإعلام والسياسة فيما جرى؟.


مصر لم تخسر شيئاً – فهمي هويدي

ما الذي يمكن أن تخسره مصر بعد احتراق مبنى مجلس الشورى؟ وإذا ما امتد الحريق -لا قدر الله- إلى مباني مجلس الشعب ومجلس الوزراء وغيرها من المباني المحيطة؟ وحتى لا يذهب أحد بعيدا في إساءة الظن، فالسؤال يفترض ان الحريق شب خارج مواعيد العمل الرسمية وفي غيبة الأعضاء وغيرهم من رجال الدولة. أدري أن الخسارة المعمارية فادحة، لأن تلك المباني الفنية والعريقة لها قيمة تاريخية كبيرة يتعذر تعويضها. من ثم فليس ذلك موضوع سؤالي.

الذي ينصب اساسا على الخسارة السياسية التي يمكن ان تحل بالوطن. في حال غياب تلك المجالس او تعطلها عن العمل. اجابة السؤال تقتضي منا ان نلقي نظرة على دورها في الحياة السياسية المصرية. ذلك انه بالمعيار الموضوعي - والتاريخي ايضا - فلا اظن ان مجلسي الشورى والشعب اضافا شيئا مهما الى حياة المواطن المصري.

صحيح ان اعضاء المجلسين (اقل من 700 شخص)، او اغلبهم على الاقل، استفادوا كثيرا ادبيا وماديا، كما ان جيش الموظفين العاملين بهما (حوالي 2500 موظف) يتمتعون بمميزات يحسدهم عليها بقية موظفي الحكومة، إلا ان جموع الشعب المصري لم تستفد شيئا من وجود المجلسين. ذلك ان الممارسة أثبتت ان كل الاعباء التي أثقلت كاهل الناس وقصمت ظهورهم استخدم المجلسان لتمريرها، حتى صدرت باسم الشعب. ولا احد ينسى ان اعلان الزيادات الاخيرة في الاسعار لم يذكر انها توصيات او مقترحات حكومية، ولكنه حرص على الاشارة الى انها قرارات لمجلس الشعب.

 في الوقت ذاته فان المجلسين لم يمارسا يوما ما اي نوع من الرقابة على الحكومة. وانما تحولا الى منبرين للدفاع عنها وتسويغ سياساتها، فضلا عن استخدامهما كغطاء لكوارث كثيرة .. (تمديد الطوارئ والتعديلات الدستورية ودفن موضوع العبّارة). ان شئت فقل ان المجلسين اصبحا ذراعين للحكومة بدلا من ان يكونا عينين مفتوحتين على ممارساتها. وكانت الفضيحة ان المجتمع اقتنع بان المجلسين يمثلان الحكومة بأكثر مما يمثلان الناس.

 اما مجلس الوزراء الذي لم يدع يوما انه يمثل الناس أو يستمد شرعيته من انتخابهم فهو في حقيقة الامر منفذ للتوجيهات التي تصدر له من الجهات العليا. وهو امر ليس فيه سر، لان رئيسه واعضاءه لا يكفون في كل مناسبة عن الاشارة الى أن ما يقومون به لا فضل ولا جهد لهم فيه، وانما هو في الأول والآخر تنفيذ للتوجيهات والتزام بالبرنامج المرسوم. ما أريد ان اقوله ان اختفاء هذه المجالس لن يحدث فراغا من اي نوع في الحياة السياسية المصرية، ولن يسأل احد لماذا غابت، لان السؤال المتداول على مختلف الالسنة هو لماذا هي موجودة اصلا. وغاية ما هناك ان التعليمات والقرارات التي كانت تصدر من الجهات العليا ثم تمر على مجلسي الشعب والشورى، او يتلقاها رئيس الوزراء، لتصل الى المجتمع بعد ذلك ستختصر طريقها بحيث يتلقاها الناس مباشرة، بغير تجميل او تمثيل.

ما اريد ان اقوله ايضا انه مادام مبنى رئاسة الجمهورية بخير، فالامور مستقرة في البلد. وعجلة الحياة السياسية ستظل تدور بوتيرتها العادية. بالتالي فان اي مبنى آخر في بر مصر يتعرض لاي ضرر ادى الى هدمه او احتراقه لن يؤثر قيد أنملة في مجرى الحياة او دولاب العمل. لا يستطيع المرء ان يخفي شعوره بالاسف لاحتراق مبنى مجلس الشورى.

وفي الوقت نفسه فإنه لا يستطيع ان يخفي شعورا بالدهشة والقلق ازاء ردود فعل الناس وتعليقاتهم على الحدث، فقد قال لي أحد وثيقي الصلة بالاجهزة الامنية ان موظفي المجلسين الذين انتابهم الفزع حين فاجأهم الحريق وخرجوا الى الرصيف المقابل يتابعون المشهد، سمعوا من الناس الذين تجمعوا في المكان تعليقات تنم عن الشماتة والتشفي والترحيب في بعضب الاحيان - وكان ذلك كاشفا لحقيقة مشاعر عينة عشوائية من الرأي العام تجاه امثال تلك المجالس والمؤسسات التي اصبحت عبئا على المجتمع. ومصدرا لسخط الناس ونقمتهم، حتى ان احد الواقفين قال ان الحريق انتقام إلهي من الواحد الجبار، الذي يمهل ولا يهمل
صحيفة الدستور المصريه الخميس 20 شعبان 1429

25 ديسمبر 2009

من غرائب كوكبنا ... فهمي هويدي

من غرائب كوكبنا
 فهمي هويدي

لا أعرف كم عدد المصريين أو العرب الذين شاهدوا صورة الرؤساء الأميركيين الخمسة وهم يتضاحكون بعد مأدبة العشاء التي أقيمت لهم في واشنطون. لكني لست أشك في أن أي مواطن وقعت عينه على الصورة لابد أن يكون قد شعر بالغيرة والحسد.
 
من جانبي احتفظت بالصورة ووضعتها تحت لوح الزجاج الذي يغطي قرص مكتبي، وصرت أتطلع إليها بين الحين والآخر غير مصدق أن هناك بلدا فوق كوكبنا الأرض يمكن أن يجتمع فيه خمسة رؤساء في صورة واحدة. هونت من الأمر بعدما تذكرت أن الرئيس مبارك كان قد ظهر قبل أيام وسط جمع من الرؤساء والملوك في قمة الكويت، كما ظهر وسط عدد آخر من رؤساء الدول والحكومات الأوروبية في قمة شرم الشيخ، لكنني انتبهت إلى أن هؤلاء وهؤلاء رؤساء لدول اخرى، وانه من الجيد ان يتم اللقاء مع رؤساء آخرين حتى إذا كانوا في قمة «تشاورية »، وهو ما يمكن ان يفعله أي رئيس، لكن التحدي الحقيقي ان يقف الرئيس بين رؤساء سابقين من أبناء بلده.
 
وحين خطر لي ذلك الخاطر واسترحت اليه، ساورني بعض القلق من الصياغة، ووجدت انه من الأحكم والأضمن أن اضيف إلى كونهم رؤساء سابقين من البلد ذاته شرطا يقضي بضرورة أن يكونوا من الأحياء. تغاضيت عن العدد، مقتنعا بأن المطالب بتوفير اربعة رؤساء سابقين مع الرئيس الجديد تعد نوعا من التعجيز الذي يستدعي شرطا مستحيلا، لأن أي مواطن في مصر مثلا سيعتبره مطلبا لا يخلو من تنطع وسخافة، ذلك ان صاحبنا هذا ان كان في «عرض » رئيس سابق واحد على قيد الحياة، فلا ينبغي لعاقل ان يشتط ويحلم بأربعة رؤساء دفعة واحدة واحياء أيضاً.
 
لست واثقا من ان كل واحد من الرؤساء الأميركيين قد عاد إلى بيته سليما معافى، ولم يتعرض لأي طارئ في الطريق، لأنني اتصور انه لابد أن يكون احدهم قد أصابته «عين » واحد من المغتاظين الحاسدين في بلادنا، ورغم ان وكالات الانباء لم تنقل شيئا من ذلك القبيل الا انني واثق من ان سهم العيون الحاسدة يمكن أن يقطع المسافات ويخترق الحجب، لذلك لن أستغرب ان تنزل بأي واحد منهم نازلة في أي وقت وهو ما يمكن أن يثبت ان بلادنا مازالت قادرة على الإنجاز فاذا كانوا هم تفوقوا علينا في الحركة والفعل فبوسعنا ان نتفوق عليهم ونغلبهم في القر والحسد، كل هذا ونحن قاعدون.
 
ما استفزني ورفع من درجة الغيرة عندي انني كلما نظرت إلى الصورة وجدتهم يبادلونني النظرات بابتسامات عريضة. وخيل إلي أن ابتساماتهم تتحول بمضي الوقت إلى ضحكات مجلجلة، حتى خطر لي انهم يعايرونني ويقصدون اغاظتي شخصياً  وكدت ألمح واحدا منهم وهو يحاول إخراج لسانه لي، ولم أستبعدها من الرئيس بوش الخارج لتوه من البيت الأبيض باعتباره اكثرهم خفة وبلاهة.
 
احد الاسئلة التي تلح عليّ كلما نظرت إلى الصورة ما يلي: كيف تأتى لهم ان يبقوا على اربعة رؤساء سابقين احياء؟ وجدت ردا سريعا خلاصته ان الناس هناك هم الذين يختارون رؤساءهم وان لكل واحد منهم أجل في مكتبه لا يستطيع ان يتجاوزه، أما عندنا فالأقدار هي التي تختار الرؤساء، وهي التي تأتي بهم وهي التي تصرفهم، والناس لا شأن لهم بالموضوع، لأن المشيئة لا راد لها ولا تعقيب عليها. وغاية ما هو مسموح للناس لا أن تتغير الاقدار والمشيئة، وانما أن يسألوا الله اللطف
فيهما. وبناء على ذلك التحليل اقتنعت بأن الرؤساء في الولايات المتحدة حين ينتخبون فإن الواحد منهم يقطع من ولايته إلى واشنطون تذكرة ذهاب وعودة، أما عندنا فإذا ما ابتسم الحظ للموعود بالمشيئة فإنه يقطع تذكرة للذهاب فقط.

صحيفة الدستور المصريه الجمعة 26 المحرم 1430 – 23 يناير 2009