30 ديسمبر 2009

الحذاء المتحضر ! ـ د . حلمي محمد القاعود

عقب هزيمة 1967م السوداء اشتهر الشاعر نزار قباني بمجموعة من القصائد لسياسية التي كان يهجو فيها الأنظمة والشعوب العربية جميعا ، وكان من بين قصائده واحدة همزية خصصها لهجاء مثقفي السلطة أيامئذ – وكانوا أكثر حياء من خلفائهم في أيامنا – وجاء فيها بيت اشتهر بين الأدباء يقول فيه :
وإذا المفكر أصبح بوقا … يستوي الفكر عنده والحذاء
وقد التقط صديقي الأديب الكبير وديع فلسطين ، فكرة البيت ، وكتب سلسلة ممتدة من المقالات الطويلة في مجلة الأديب اللبنانية ، استغرق نشرها شهورا طويلة في أوائل السبعينيات ، وشارك في تناول الفكرة عدد كبير من أدباء هذه الفترة في مشرق البلاد العربية ومغربها ، وكان لأدب الأحذية والنعال ركن واسع في أدبنا الحديث .
عادت الفكرة مرة أخرى في الرابع عشر من ديسمبر 2008م ، حين أطلق الصحفي العراقي ” منتظر الزيدي ” حذاءه بفردتيه على الرئيس الأميركي ” جورج بوش ” ،وهو يعقد مؤتمرا مع الصحافة ، ويتفاخر بصلافة أنه نقل العراق إلى الديمقراطية والحرية ، وأن الحرب لما تزل قائمة ولم تنته بعد ! تراكمت صور الإجرام الوحشي الدموي الاستعماري المرتبطة باسم جورج بوش وعملائه في ذهن الصحفي العراقي ، فخرج عن أطواره الطبيعية ، ووجد أن الرد المناسب على الجرم المتعجرف هو القذف بالحذاء مهما كان الثمن !
وكانت بداية الثمن أن جلاوزة الاستخبارات الأميركية والعراقية وضعوا أس منتظر والشاشة تعرض ما يفعلون – على الأرض وضربوه بمنتهي القسوة حتى نزف دمه على أرض القاعة ، ثم سيق إلى المجهول حيث استمر تعذيبه لدرجة دفعت أحد القضاة الذين جلبهم النظام الحاكم العميل ؛ لإعلان أن جسد الصحفي به آثار تعذيب واضحة .
الحدث كان موضوعا للتلفزة والصحف والإذاعة على امتداد العالم كله ، وليس العالم العربي وحده . وخرجت مظاهرات عراقية ومصرية تشيد بالصحفي وتندد بالغزاة ، ونسي الناس في مصر همومهم اليومية بدءا من البحث عن الرغيف حتى هزيمة الأهلي في اليابان ، وانتعشت أفئدتهم ، وانبسطت وجوههم ، وأشرقت عيونهم بالفرحة والبهجة ، لأن صحفيا مغمورا استطاع أن يعبر بالطريقة الملائمة عن مشاعرهم الدفينة وأشواقهم العاجزة ، فرد على الرئيس المتعجرف بما يليق به.
كانت أغلبية الشعوب العربية وكتابها ومحرريها وإعلامييها ، مع الصحفي العراقي ، يؤيدونه ،ويدافعون عن سلوكه ، ويطالبون بتحريره من قبضة الغزاة وعملائهم في بغداد ، وأعلن المحامون بالمئات في شتى البقاع العربية تطوعهم للدفاع عنه وكتابة مذكرات المرافعة ومواجهة الاتهام .
وكان الأميركان أنفسهم سعداء بما جرى لرئيسهم الفاشل ، الذي ورطهم في حروب عقيم ، لا ثمرة لها إلا تخريب الاقتصاد الأميركي ، وانهيار البنوك والشركات الكبرى ،وطرد أكثر من نصف مليون أميركي ن وظائفهم . وقد تناولوا موضوع الحذاء بالتندر والسخرية والضحك ، فثقافتهم تسمح بمثل هذا النوع من الاحتجاج ، وذلك دون أن يلتفتوا إلى ما جرى للعراقيين ومن قبلهم الأفغان والصوماليين من مذابح وانتهاكات وسرقة ثرواتهم وتراثهم لغالي ، وتخريب بلدانهم وإفقادهم الأمن والطمأنينة وأبسط الخدمات اليومية .
مئات بل آلاف المقالات والآراء عبرت عن وقوف إلى جانب لصحفي العراقي تعبيرا عن وحدة تجمع بين شعوب الأمة من أقصاها إلى أدناها ، وهي وحدة ظن البعض أنها ماتت مع تفجيرهم للصراعات العرقية والطائفية والمذهبية على امتداد العالم العربي ؛ بل والعالم الإسلامي !
صحيح أن الأمة عاجزة ومكبلة ، وأصفادها ثقيلة ثقيلة ، ولكن عينها لا تخطئ اللحظة التي تحلم بها ، وتتمناها وتنتظرها ؛ عندما تتحقق الأسباب وتتجمع . وكانت قذيفة ” منتظر الزيدي ” ، لقطة من هذا الحلم المنتظر ،وتنفيسا عن أحزان مكبوتة لم يصنعها الغزاة الهمج وحدهم ، بل بعض أبناء جلتنا المدعومين من قبلهم ، والمتحكمين في مصائرنا وأقدارنا وطعامنا وشرابنا ، فسودوا حياتنا وأظلموها في كل المجالات حتى صرنا بحق – كما تنبأ البشير النذير صلى الله عليه وسلم – قصعة الأمم !
على الجانب الآخر كانت هناك أقلية تضم المارينز العرب ، وكتاب لا ظوغلي ، وراغبي الشهرة ، والغاضبين من الواقع المخزي الذي تعيشه الأمة على يد حكامها وزعمائها وقادتها وشعوبها ، ترفض هذا السلوك الصحفي العراقي ، وتشجبه ،وترى فيه خسارة وليس مكسبا . وذهب بعضهم إلى أن هذا السلوك غير حضاري ، ولا يليق أن نعامل به ضيفا حل بساحتنا ودارنا وربعنا ,, وقد ركز على الجانب الحضاري المارينز العرب الذين يعبدون أميركا من دون الله ، وهؤلاء عادة يرفضون كل ما يمس الإله المعبود ، ويرفضون كل حركة تدل على حيوية الأمة ومقاومتها وجهادها ، ولذا يحاربون الإسلام دائما ، ويعملون على استئصاله والتبشير بسياسة الاستسلام ، وثقافة التبعية ، وهم ضد المقاومة الإسلامية في فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان والصومال ، وهم ضد إيلام الغزاة بأدنى ألم ،ولهم في ذلك مسوغات هشة ومنطق سقيم وأسباب غير منطقية وغير حضارية أيضا .
ولا أدري كيف يكون الحذاء متحضرا في حضارة رئيس همجي يستعيد همجية ريتشارد قلب الأسد وأسلافه وخلفائه الذين قتلوا وذبحوا وروعوا ونهبوا في بلاد المسلمين ، بل في بلاد أبناء ملتهم جنوب أوربة وجنوبها الشرقي وهم يزحفون إلى القدس العتيقة أيام الحروب الصليبية ، في وحشية لا يقرها دين ولا خلق ولا عرف ولا قانون .
إن الحذاء المتحضر ، يكون أكثر تحضرا في حضرة الهمج والقتلة واللصوص الأقوياء ، ولا أعلم ماذا سيكون موقف المارينز العرب وأمثالهم ، حين يرون جنديا أميركيا همجيا يدخل بيت أحدهم ، ويهتك عرض أهله وأقاربه ، ويصور جريمته ، ثم يهو بالصور مع رفاقه الهمج ! هل أسأل عن النخوة والكرامة والشرف ؟ أم إنها ذهبت مع ” رزم ” الدولارات ، و”حزم ” الامتيازات ؟
أعجبني الرئيس الشيوعي الفنزويلي ” هوجو شافيز ” ، وهو يتناول قصة الحذاء الصاروخي على شاشة التلفزة . كان يضحك مرحا فرحا ، ويطلب من مقدمة البرنامج أن تعرض مشهد القذيفة الحذائية ليراها جيدا. إن شافيز يرى أن بوش يستحق أن يضرب بكل أحذية العالم على ما ارتكبه من جرائم وآثام ! ولكن بعض الشيوعيين المصريين لهم رأي آخر ، وإن كانت أكثريتهم أعربت عن تأييدها للصحفي العراقي .
إن حضارتنا تكرم الضيف المؤدب المهذب الذي يحمل رسالة سلام ومودة ، ولكن الضيف الذي يتجاوز حدود الضيافة ، ويتباهى – وبجواره العملاء – بجرائمه وآثامه ، ويتحدى مشاعر مضيفيه في قحة غير مسبوقة ، فغن توجيه الحذاء إليه يعد من أبسط الأعمال الحضارية التي تبلغه رسالة موجزة فحواها ؛ أن الأمة ستقاوم ، ولن تتوقف عن المقاومة حتى تتحقق لها الكرامة والعزة والنصر بإذن الله .
مهما يكن من أمر ، فقد أعاد الحذاء المتحضر ، فكرة الحديث عن أدب النعال إلى الوجود مرة أخرى ، وانطلق الشعراء والكتاب ، ينظمون ويدبجون ، ويدخلون بنا عالما فسيحا من الأدب ؛ يحمل مشاعر الأمة وآلامها وآمالها .

ليست هناك تعليقات: