لا أدري بأية طريقة أبدأ بها هذا المقال في ظل الانكسارات والخيبات التي تعيشها الأمة، بفعل بعض بنيها الذين فقدوا الرشد والاستقامة، وحرَّكتهم أهدافهم الشخصية الرخيصة للتضحية بمصالح الأمة كلها، ولم يتورعوا في سبيل ذلك عن هزيمة أوطانهم من الداخل، وإلحاق الأذى بالعناصر الفاعلة في مجتمعاتهم الإسلامية وترويعها، وتغييبها وراء القضبان، وتشويه سمعتها عن طريق الأبواق المأجورة والطبول الجوفاء، دون أن يتذكروا للحظة واحدة أن دولة الظلم ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة.
ولكن المفارقة تبدو مخجلةً، حين يتعامل هؤلاء الذين فقدوا الرشد والاستقامة مع أعداء الأمة والإنسانية بكل ذلة وخنوع وجبن وانبطاح، وينفذون أوامرهم ورغباتهم بكل سرعة ودقة، ويعدونها وحيًا مقدسًا لا يجوز التمرد عليه، أو مخالفته ولو بالكلام، أو الإنشاء الفارغ الذي يصدعون به رأس الأمة ليل نهار.
في هذا الأسبوع الثالث من يوليو 2009م فجعتنا الأنباء بمزيد من الإذلال والمهانة لأمتنا وشعوبها، من جانب الغزاة اليهود النازيين القتلة الذين تناسوا تمامًا أن هناك عالمًا إسلاميًّا وشعوبًا تنتسب إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن هناك حقوقًا يجب أن يسلموا بها لهذا العالم وتلك الشعوب، بل تمادوا وتمردوا على من صنعوهم وأمدوهم- وما زالوا- بقطعة الخبز وقطعة السلاح، فراحوا يعبرون بصلافة ووقاحة عن إرادة استعلائية إجرامية لا تستجيب لأي منطق، اللهم إلا منطق القوة الذي يبدو أنه لم يعد له وجود في أي مكان في العالم غير فلسطين المحتلة؟!.
وسوف أذكر بعض ملامح الإذلال، ومعالم المهانة التي صعقتنا على مدى هذا الأسبوع؛ لعل النخوة أو المروءة أو الرجولة تتحرك في دماء بعض العرب المسلمين، داخل فلسطين أو خارجها:
أولاً: أصدر وزير التعليم النازي اليهودي في فلسطين المحتلة قرارًا يلغي استخدام كلمة "النكبة" في مناهج التعليم بالنسبة لعرب 1948م، والمقصود ألا يتذكروا الجريمة اليهودية النازية باغتصاب فلسطين وسرقة أرضها وتشريد أهلها.
ثانيًا: إعداد قانون في الكنيست النازي اليهودي لتمليك أراضي الفلسطينيين المهجرين أو المشردين باسم التصرف في أراضي "إسرائيل"، ولتكون ملكًا أبديًا وقانونيًّا لمن يستأجرون هذه الأرض من جانب ما يسمى بـ(دائرة أراضي "إسرائيل")؛ تمهيدًا لتهويد الجليل والنقب تمامًا.
ثالثًا: اقتطاع جزء من مقبرة باب الرحمة الملاصق للمسجد الأقصى المبارك، وإقامة حديقة عامة للغزاة النازيين اليهود في إطار تهويد المدينة المقدسة.
رابعًا: إطلاق دعوات يهودية عبر الإعلانات والشبكة الضوئية لإقامة الصلوات والشعائر التلمودية في ساحة المسجد الأقصى؛ من أجل بناء الهيكل الثالث على أطلال الحرم القدسي.
خامسًا: البدء في تنفيذ قرار وزير الإسكان النازي اليهودي بتغيير الأسماء العبرية في فلسطين على 2500 مكان وطريق ومؤسسة.. وإلغاء اللغة العربية تمامًا، ولم يتوقف الأمر عند فلسطين 48، بل وصل إلى المدينة المقدسة، ففي منطقة مدخل سلوان على بعد أمتار من السور الجنوبي للمسجد الأقصى، أطلق اسم شارع "معاليه دافيد" على شارع وادي حلوة بسلوان، و"جاي هينوم" على شارع "وادي الربابة"، وأعلنت المؤسسة الصهيونية عن تغيير جميع لافتات الشوارع في البلدة القديمة.
سادسًا: أعلن الغزاة النازيون القتلة أنهم سيقيمون حيًّا يهوديًّا جديدًا في منطقة الشيخ جراح بالقدس الشرقية، وعندما رفض الغرب وأمريكا وروسيا هذا الأمر؛ فإن الرد النازي اليهودي بلغ حضيض الصلافة والعنجهية والغطرسة، ورفض رئيس الوزراء النازي اليهودي ووزراؤه مطلب الدول التي صنعتهم وأمدتهم بالمعونات الاقتصادية والعسكرية والخبرات العلمية والتقنية، فقد قال الإرهابي داني أيالون مثلاً: إننا نتحرك وفق مصالحنا، ولن نستجيب لأحد أيًّا كان، إننا لسنا تابعين لأحد!!.
والأكثر وقاحة وغطرسة ما قاله الحاخام اليهودي الأكبر شلومو عمار تعقيبًا على مطالبة أمريكا بوقف الاستيطان في الشيخ جراح: إن أمريكا تخالف تعاليم التوراة حين تقف في طريق بناء المغتصبات.
وكتب الحاخام في رسالة موجهة إلى مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأمريكية الكبرى إن "التوراة تطلب من الشعب اليهودي العيش في "إسرائيل" بينما تمارس الولايات المتحدة ضغوطًا لمنع اليهود من أن يعيشوا ويبنوا منازلهم في أجزاء كبيرة من أرض "إسرائيل" بحدودها التوراتية.
وأضاف إن "الأمريكيين يريدون إقامة دولة (فلسطينية) يحظر على اليهود العيش فيها، بل ويريدون حتى منع التوسع الطبيعي للمستوطنات اليهودية".
ودعا الحاخام اليهود في الولايات المتحدة إلى استخدام نفوذهم "ليتمكن اليهود من الإقامة في كل مكان من الكيان النازي الغازي؛ بناءً على تعاليم التوراة، و"الهالاخا" (التعاليم الدينية اليهودية المتشددة).
ولم يتوقف الأمر عند الحاخام النازي، بل تعداه إلى نفر من القادة النازيين اليهود، فقد قال إيلي يشاي وزير الداخلية ونائب رئيس الوزراء: "إن دولته ليست تابعة لدولة أخرى في العالم، من حق حكومة ودولة الكيان النازي اليهودي البناء في كل أنحاء البلاد، حين تكون مشاريع مماثلة قد حصلت على كل التراخيص القانونية".
صحف (جيروزاليم بوست) و(معاريف) و(هاآرتس) العبرية، نقلت تصريحات الوزير دان ميريدور التي طالب فيها إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما بضرورة وقف الضغوط التي تمارسها على حكومة تل أبيب لتجميد بناء المشروعات الاستيطانية على الأراضي الفلسطينية.
ويقيم نحو 190 ألف غازٍ يهودي في عشرات الأحياء الاستيطانية في القدس الشرقية؛ حيث يقطن 270 ألف فلسطيني.
هذا الإذلال الذي يوجع القلب، وذلك الامتهان الذي يؤذي الشعور؛ يصبان في خانة الاستسلام الذي رفع رايته العرب والمسلمون؛ حيث تركوا المجال للغزاة القتلة، كي يفعلوا ما يشاءون دون خوف من عقاب أو قانون، وكلما أمعنوا في إذلال الأمة وإهانتها تقدَّم القادة والحكام العرب بالمزيد من التنازلات، والمجرمون النازيون القتلة لايعبأون ولا يهتمون، بل يطالبون بالمزيد، حتى صرنا قصعة الأمم، كما تنبأ البشير النذير عليه الصلاة والسلام.
ومع ذلك؛ فإن هذا الأمر لن يستمر طويلاً، وخاصة حين تستيقظ الأمة على صوت الآية الكريمة: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ﴾ (الحج: من الآية 78).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق