‏إظهار الرسائل ذات التسميات د.محمد عمارة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات د.محمد عمارة. إظهار كافة الرسائل

13 أكتوبر 2010

حقائق جمع القرآن الكريم

في كتاب السيوطي (849 ـ 911هـ ـ 1425 ـ 1505م) "الإتقان في علوم القرآن" جمع للروايات المترادفة والمتواترة عن المراحل التي مر بها التدوين والجمع للقرآن الكريم..
وفي هذه الروايات نقرأ: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تنزل عليه السورة ذات العدد، فكان إذا أنزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب (من كتاب الوحي البالغ عددهم ثمانية وعشرين كاتبا) ـ فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا."
ونقرأ ـ كذلك ـ أن الرقاع التي دُوّن فيها القرآن قد جُمعت بإشارة من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ..


 وبعبارة الحاكم النيسابوري (321 ـ 405هـ ـ 933 ـ 1014م) في (المستدرك) ـ : فلقد تم "تأليف ما نزل الآيات المتفرقة في سورها وجمعا فيها بإشارة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ".


ونقرأ ـ عن الجمع الذي تم في عهد أبي بكر الصديق ـ أنه كان جمعًا لما كان مكتوبًا في أدوات الكتابة المختلفة ـ ومنها جريد النخل ـ في الصحف، لتكوّن "المصحف"..


وبعبارة "الحارث المحاسبي" (165 ـ 243هـ ـ 781 ـ 857م) في كتابه (فهم السنن) ـ : "فإن كتابة القرآن ليست بمحدثة، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرقًا في الرقاع والأكتاف والعُسُف ـ (جريد النخل) ـ ..


فأمر الصديق ـ رضي الله عنه ـ بنسخها من مكان إلى مكان مجتمعًا..


أي جُمع في الصحف، وكان ذلك بمنزله أوراق وجدت في بيت النبوة فيها القرآن منتشرًا، فجمعها جامع، وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء".


أما ما صُنع على عهد عثمان بن عفان، فكان جمع الأمة على قراءة القرآن وفق اللهجة القرشية التي نزل بها، وذلك بعد توحد القبائل في أمة وشيوع لهجة قريش فيها، وزوال الضرورة التي رخصت قراءة بعض الحروف وفق اللهجات القبلية المتعددة..


أي أن عثمان جمع الأمة على حرف واحد..


ولم يكن الجامع للقرآن الكريم..


وبعبارة الحارث المحاسبي: "إن المشهور عند الناس أن جامع القرآن هو عثمان، وهو ليس كذلك،


 إنما حَمَل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد..


فأما قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن..


لقد أمر عثمان زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام بنسخ القرآن في المصاحف.. قائلا لهم: اكتبوه بلسان قريش فإنه نزل بلسانهم..


وبعبارة ابن حجر العسقلاني (773 هـ - 852 هـ ـ 1373 ـ 1449م): إن ذلك كان سنة 25هـ.. اقتصر التدوين ـ في المصاحف التي وزعت على الأنصار ـ على لغة قريش ـ التي نزل بها ـ بدل قراءته بلغة غيرهم، لأن الحاجة إلى ذلك قد انتهت، فاقتصر على لغة واحدة.


وبعبارة القاضي أبو بكر ـ في (الانتصار) ـ : فإن عثمان لم يقصد ما قصده أبو بكر في جمع القرآن بين لوحين، وإنما قصد جمع الناس على القراءة الثابتة المعروفة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ


وإلغاء ما ليس كذلك، وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير ، ولا تأويل أٌثبت مع التنزيل".


تلك هي حقائق جمع القرآن الكريم.. كما جاء في مصادر علوم القرآن..


لقد جُمع ـ أولاً ـ جمعًا إلهيًا، بين يدي النبي ـ عندما راجعه معه جبريل ـ


ودون نصه مرتبًا في أدوات التدوين المتاحة..


ثم جُمع في الصحف ـ خاصة ـ بشاهدي الحفظ والتدوين بين يدي النبي، على عهد أبي بكر الصديق، فكونت صحائفه "المصحف الشريف"..


ثم جمع عثمان الأمة على حرف واحد هو لهجة قريش التي نزل بها، بعد توحد القبائل في أمة، وتوحد لهجتها.. ومن ثم زالت الحاجة إلى المدونات باللهجات المختلفة، والتي وضع فيها أصحابها الكلمات المفسرة..


وذلك حتى لا يختلط "التأويل" بالتنزيل بمرور الزمن ..

26 ديسمبر 2009

فضح تدليس الزنادقة ـ د. محمد عمارة

الرد على من طعن في سن زواج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
د. محمد عمارة
أستاذ الفقه بكلية الدراسات الإسلامية "جامعة الأزهر"
عوَّدنا الكاتبُ (جمال البنا) على كل غريب ومبتدع، وكان آخر هذه المبتدعات ما أعلنه في جريدة "المصري اليوم"
بتاريخ 13/8/2008 من ظهور صحفي شاب يصحح للأمة خطأً منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، وجعل البنا يمدح ويبجل ذلك الصحفي الذي استطاع أن يكشف خطأ عَمِي على الأعلام طوال هذه القرون، فيا حظ أمه بهذا الجهبذ الذي دقق وفتش وقارع، ونقد سند الرواية التي تتحدث عن سن السيدة عائشة وقت زواجها من النبي، والتي غفلت عنها الأمة طوال 1000 عام، والفضل الأول كما يرى البنا يرجع إلى أنه لم يدرس في الأزهر وإلا لما كان يستطيع هذا العمل العظيم، وسوف يذهب هذا الرد وساوس الشيطان من رأسيهما إن شاء الله تعالى، إن أرادا الحق، وإن أبوا إلا المكابرة والعناد فكما قال ربنا: **قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} .
يظهر في هذا البحث الكذب والاختلاق والجهل؛ وذلك من عدة أوجه:
أولاً:
كلمة أريد بها باطل، يقول البنا:
"وجد الباحث في نفسه حمية للدفاع عن رسول الله -صلَّى الله عليه وسَلَّم- لعلها لم توجد في غيره"، وهذا محض كذب وافتراء، وفعله ليس دفاعًا عن رسول الله -صلَّى الله عليه وسَلَّم- ولا حمية له، بل هذه محاولة من محاولات القضاء على سنة رسول الله -صلَّى الله عليه وسَلَّم- من خلال التشكيك في الأحاديث الواردة، وبث الريبة في نفوس العامة نحو الأئمة الأعلام، وإن كان البنا صادقًا فأين هؤلاء من ذبهم عن الدين، ورد افتراءات المستشرقين والعلمانيين، أين جهدهم في صد عدوان الكفر، أين هم من الدعوة لدين الله، لا شيء من هذا مطلقًا؛ إلا مقالات سيئة، وفتاوى ماجنة كتلك التي تجيز تقبيل الشباب للفتيات، وشرب الدخان في نهار رمضان وغير ذلك من الفتاوى القبيحة المنكرة.

ثانيًا:
كذب وتدليس على الخلق؛ إذ قال:
"وكما ذكرت جميع المصادر بلا اختلاف أنها -يعني أسماء- أكبر من عائشة بـ10 سنوات"، وهذا غير صحيح فليس هذا بالاتفاق وإنما هي رواية ذكرت، وسوف أبين الصحيح لجلاء الغيوم عن مرضى القلوب.

ذكر الباحث نقلا من كتب (الكامل، وسير أعلام النبلاء، وتاريخ الطبري، ووفيات الأعيان، والبداية والنهاية، وتاريخ بغاد، وتاريخ دمشق) ما يؤكد أن عائشة قد ولدت قبل البعثة، بانيًا وهمه هذا على ما روي من فارق السن بينها وبين أختها أسماء وهو عشر سنوات، وهذا يضعف - في زعم الصحفي - حديث البخاري الذي يثبت فيه أن النبي -صلَّى الله عليه وسَلَّم- تزوج عائشة وهي بنت ست ودخل عليها وهي بنت تسع سنين.
وقد رجعت إلى تلك المصادر التي اعتمد عليها الصحفي وعلى غيرها من أمهات الكتب فلم أجد ما زعمه إلا روايات لا تشهد له بشيء؛ ففي كتاب معرفة الصحابة لأبي نعيم (6/ 3208)، والبداية والنهاية (3/ 131)، وسير أعلام النبلاء (3/ 427)، وأسد الغابة (7/ 7، 186، 216)، وتاريخ الإسلام (3/ 604، 698)، والسمط الثمين في مناقب أمهات المؤمنين لمحب الدين الطبري (صـ 36)، أضف إلى ذلك ما ذكره ابن هشام في السيرة وهو أسبق من هؤلاء جميعًا في عدم تمييز عائشة البكاء من الفرح قبل الهجرة لصغر سنها.
جاء في سير أعلام النبلاء أيضًا (3/ 522) وكذا تاريخ الإسلام: "وكانت -أي أسماء- أسن من عائشة ببضع عشرة سنة". وإن كنا لا ننفي الرواية الواردة بأن الفارق بينهما عشر سنين فقط، إلا أنها لا تصح.
فإذا كانت كتب التاريخ تؤكد أن وفاة أسماء كان سنة 73 هـ وتوفيت عن عمر 100 سنة، وأن أسماء هاجرت وعمرها 27 سنة وهذا يعني أنها حينما أسلمت كان عمرها 14 سنة بطرح مدة الدعوة المكية 13 من مجموع السن 27-13 = 14، والثابت أنها كانت أكبر من عائشة ببضع عشرة سنة على الراجح كما ذكر ذلك الذهبي وغيره، والبضع من 3 إلى 9، فلو اعتبرنا ما بين أسماء وعائشة، لوجدنا أن البضع عشرة سنة هو ما بين 13 إلى 19 سنة، وعليه فتكون عائشة قد ولدت في السنة الخامسة من البعثة، أي في الإسلام وليس قبل الإسلام، وهذا ما يتفق مع الكتب السابقة.
ثالثًا:
الكذب والتدليس مرة أخرى فينقل الصحفي كلامًا من كتاب البداية والنهاية ليس له وجود أصلا فيزعم أن ابن كثير قال عن الذين سبقوا بإسلامهم: "ومن النساء أسماء بنت أبي بكر وعائشة وهي صغيرة فكان إسلام هؤلاء في ثلاث سنين ورسول الله يدعو في خفية ثم أمر الله رسوله بإظهار الدعوة"، ثم يقول: وبالطبع هذه الرواية تدل على أن عائشة قد أسلمت قبل أن يعلن الرسول الدعوة في عام 4هـ وأخذ يستطرد ويدور حول هذه القصة الملفقة ليثبت المراد من هذا الكذب ظنًّا أن هذا الأمر لن يبحث عنه أحد، قلت: وقد رجعت إلى الموطن المشار إليه فلم أجد ما ذكره الصحفي الهمام الذي لم يجد بدًّا من الكذب على الأعلام لإظهار الخطأ الموهوم، ولم يذكر ابن كثير خبرًا فيه ذكر أسماء في السابقين إلى الإسلام فضلا عن عائشة.

رابعًا:
الحديث الثاني الذي يستند عليه، والعجيب أنه من رواية البخاري الذي يزعم كذبه ويستدل به، والأعجب أنه لم يفهم فحواه، ولعل عذره أنه لم يتخرج في الأزهر كما يقول تلميذه البنا!، والحديث عن عائشة: "لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرًا قبل هجرة الحبشة…" وهذا كذب وتدليس من الصحفي ومتابعة على جهله من تلميذه البنا للوصول إلى مأرب وغرض خبيثين، ونص الحديث: "خرج أبو بكر مهاجرًا قِبَلَ الحبشة"، وهناك فارق كبير بين المعنيين، فالحديث يبين أن أبا بكر لما أوذي واشتد إيذاء قريش له خرج نحو الحبشة مهاجرًا وكان خروجه هذا قريبًا من هجرة المدينة يعني في أواخر الدعوة المكية، فلقيه ابن الدغنة فأجاره، والهجرة لم تنقطع إلى الحبشة إلا بهجرة المدينة، ويؤكد هذا المعنى ما جاء في الحديث نفسه: على لسان أبي بكر لابن الدغنة: إني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله ورسوله، فقال رسول الله -صلَّى الله عليه وسَلَّم-:
((قد أريت دار هجرتكم؛ رأيت سبخة ذات نخل بين لابتين…))
يعني الأمر لم يتعدَّ الأيام التي خرج فيها أبو بكر يريد الحبشة، فرجع في جوار ابن الدغنة، فلم يمتنع عن استعلانه بالقرآن فشكت قريش إلى ابن الدغنة، فخلع أبو بكر جواره فبشره النبي -صلَّى الله عليه وسَلَّم- برؤية أرض الهجرة.

وقد حرف النص كما ترى ليصل إلى مراده، ومعلوم أن بدء الهجرة إلى الحبشة كان في بداية الإسلام ليثبت أن عائشة كانت قد ولدت قبل البعثة، لاحظ أيضًا أن هذا الحديث يؤكد صغر سن عائشة لقولها: "لم أعقل أبوي قط…" وهذا يؤكد أنها ولدت في الإسلام كما أثبتناه.
خامسًا:
تناقض في قياس عمر عائشة على عمر فاطمة بأن فارق السن بينهما خمس سنوات وأن فاطمة ولدت قبل البعثة بخمس سنوات مما يستلزم أن تكون عائشة ولدت عام البعثة الأول، وهذا فيه تناقض صريح؛ إذ كيف يثبت مولدها قبل البعثة بـ 4 سنوات بالموازنة بينها وبين أسماء، ثم يثبت مولدها عام البعثة الأول مقارنة بسن فاطمة، والحقيقة غير ذلك، يقول الذهبي في السير:
"وعائشة ممن ولد في الإسلام، وهي أصغر من فاطمة بثمان سنين" (سير أعلام النبلاء 3/ 429). وتأمل هذا، وفي ترجمة فاطمة قال الذهبي: "مولدها قبل البعثة بقليل" (السير 3/ 417)، فإذا ما نظرنا إلى سن زواج النبي -صلَّى الله عليه وسَلَّم- من عائشة وكان قبل الهجرة ببضعة عشر شهرًا، وقيل بعامين، أضف على هذا السن عمر عائشة حينها وكان ست سنوات، فيكون المجموع 2 + 6 = 8 اطرح هذا من مدة الدعوة المكية 13 - 8 = 5، فإن هذا يعني أنها ولدت في السنة الخامسة من الهجرة. ويؤكد هذا المعنى ما ذكره ابن الأثير في أسد الغابة (7/ 216) إذ ذكر أن النبي -صلَّى الله عليه وسَلَّم- زوج عليًّا من فاطمة بعد أن تزوج النبي -صلَّى الله عليه وسَلَّم- عائشة بأربعة أشهر ونصف، وكان سنها يوم تزويجها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر، وهذا يعني أنه بنى بها في السنة الثانية من الهجرة، فإذا ما اعتبرنا السن المذكور لفاطمة تبين لنا أنها ولدت قبل البعث بقليل كما ذكر الذهبي وغيره.

فانظر كيف تناقض المسكين الذي يفخر به تلميذه البنا بأنه لم يدرس في الأزهر، والفخر للأزهر حقيقة أنه لم يحتضن هؤلاء المشاغبين، ولم يجلسوا في أروقته، ولم يعرفوا أدب العلم وحق العلماء.
سادسًا:
عدم الأمانة العلمية في نقل النصوص؛ إذ نقل الكاتب عن كتاب الإصابة أن فاطمة ولدت عام بناء الكعبة وعمر النبي -صلَّى الله عليه وسَلَّم- 35 سنة، وأنها أسن من عائشة بخمس سنوات، ولم يبين أن هذه رواية من روايات عدة ذكرها ابنُ حجر؛ منها أيضًا أن فاطمة ولدت سنة إحدى وأربعين من ميلاد النبي، وقد رجح ابن حجر أن مولدها كان قبل البعثة بقليل وهو ما يتفق مع ما ذكرناه قبل ذلك.

سابعًا:
الجهل بالنصوص وعدم الفهم؛ ومن ذلك قوله عن الطبري:
"بأنه جزم بيقين أن كل أولاد أبي بكر قد ولدوا في الجاهلية"، وهذا كذب وخلط وعدم فهم؛ لأن نص الطبري المذكور يتحدث فيه عن أزواج أبي بكر الصديق وليس عن أولاده (راجع تاريخ الطبري 2/ 351)، وقد قسم الطبري أزواجه اللاتي تزوجهن؛ فمنهن من تزوجهن في الجاهلية وولدن له، ومنهن من تزوجهن في الإسلام، ثم سمى أولاد أبي بكر من زوجتيه اللتين تزوجهما قبل الإسلام وقال: "فكل هؤلاء الأربعة من أولاده ولدوا من زوجتيه اللتين سميناهما في الجاهلية"، فالحديث عن الأزواج وليس عن الأولاد، ويمكن أيضًا مراجعة تاريخ الطبري ج 2 صـ 212 في ذكر زواج النبي بعد خديجة، وهو يجزم بأن النبي بنى بها بعد الهجرة وكان عمرها تسع سنين.

وأخيرًا:
الأولى أن يترك هذا لأهل الاجتهاد والعلم وليس لأهل الجهل، فقد أوقعوا بأنفسهم نتيجة عدم البحث والدراسة، والإصرار على التعالم، فعليهم أن يعملوا فيما تخصصوا فيه لا فيما يدعونه؛ فإن ذلك يوقع بهم فيما نرى، وأرجو أن تكون آخر بلايا جمال البنا.
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده

والله تعالى أعلم.

النظرة القرآنية للأنبياء والمرسلين ـ د. محمد عمارة

إن عصمة الأنبياء والمرسلين عن كل ما ينفّر أو يشين ، هي عقيدة من العقائد الأساسية في الإيمان الإسلامي .. فهم الذين اصطفاهم الله ـ سبحانه وتعالى ـ من خيار خلقه .. وصنعهم على عينه .. ليكونوا أشراف أقوامهم نسبًا وخَلْقًا وخُلُقًا .. وجعل منهم “المثال .. والقدوة و”الأسوة” والسيرة العطرة ، على امتداد تاريخ النبوات والرسالات .. وهم عنوان كلمة الله .. والمبلِّغون لها إلى أممهم وأقوامهم .. وهم “النموذج” المُجسِّد لمنظومة القيم والأخلاق الدينية في واقع الحياة .. إنهم حلقة الوصل بين الأرض والسماء .. بين الناس وبين الله .. والمرآة التي تتجلى فيها ـ على نحوٍ نسبيّ ورفيع ـ صفاتُ الكمال والجلال والجمال التي تفردت بها ذات الله ـ سبحانه وتعالى ـ على نحو مطلق ولا نهائي ..
بل إن صفات الأنبياء ، وعصمتهم عن كل ما ينفر أو يشين ، هي في العقيدة الإسلامية ـ دليل على الحكمة الإلهية .. وبعض من “الإعجاز” الدال على صدقهم في النبوة والرسالة والتبليغ عن السماء” ..
وبعبارة الأستاذ الشيخ محمد عبده [1266 ـ 1323 هـ ، 1849 ـ 1905 م] :
“.. فإن من لوازم الإيمان الإسلامي : وجوبَ الاعتقاد بعلوّ فطرة الأنبياء والمرسلين ، وصحةِ عقولهم ، وصدقِهم في أقوالهم ، وأمانتِهم في تبليغ ما عُهِدَ إليهم أن يبلغوه ، وعصمتِهم في كل ما يشوّه المسيرة البشرية ، وسلامةِ أبدانهم مما تَنْبو عنه الأبصارُ وتَنفر منه الأذواق السليمة ، وأنهم منزّهون عما يضاد شيئًا من هذه الصفات المتقدمة” .
وأن أرواحهم ممدودة من الجلال الإلهي بما لا يمكن معه لنفس إنسانية أن تسطوَ عليها سطوةٌ روحانية .. إن لنفوسهم من نقاء الجوهر ، بأصل الفطرة ، ما تستعد به ، من محض الفيض الإلهي ، لأن تتصلَ بالأفق الأعلى ، وتنتهيَ من الإنسانية إلى الذُّروة العليا ، وتشهد من أمر الله شهود العيان ، ما لم يصل غيرُها إلى تعقله أو تحسسه بعَصِيّ الدليل والبرهان ، وتتلقى عن العليم الحكيم ما يعلو وضوحًا على ما يتلقاه أحدنا من أساتذة التعليم ، ثم تصدر عن ذلك العِلم إلى تعليم ما علمت ودعوة الناس إلى ما حُملت على إبلاغه إ ليهم ..
فهؤلاء الأنبياء والمرسلون من الأمم بمنزلة العقول من الأشخاص ، يُعلِّمون الناس من أنباء الغيب ما أذن الله لعباده في العلم به ، مما لو صعب على العقل اكتناهه لم يشق عليه الاعتراف بوجوده ..
يميزهم الله بالفطر السليمة ، ويَبْلُغ بأرواحهم من الكمال ما يطيقون للاستشراق بأنوار علمه ، ولأمانه على مكنون سره ، ما لو انكشف لغيرهم انكشافَهُ لهم لفاضت له نفسه ، أو ذهبت بعلقه جلالتُه وعظمتُه ، فيُشرفون على الغيب بإذنه ، ويعلَمون ما سيكون من شأن الناس فيه ، ويكونون في مراتبهم العلوية على نسبة من العالمين ، نهاية الشاهد وبداية الغائب ، فهم في الدنيا كأنهم ليسوا من أهلها ، وهم وفد الآخرة في لباس مَن ليس من سكانها ..
ثم يتلقّوْن من أمره أن يُحدِّثوا عن جلاله بما خفي عن العقول من شئون حضرته الرفيعة بما يشاء أن يعقتده العباد فيه ، وما قُدّر أن يكون له مدخل في سعادتهم الأخروية ، وأن يبنوا للناس من أحوال الآخرة ما لا بد لهم من علمه ، معبرين عنه بما تحتمله طاقة عقولهم ، ولا يَبْعُد من متناول أفهامهم ، وأن يبلِّغوا عنه شرائعَ عامة ، تحدد لهم سَيْرهم في تقويم نفوسهم ، وكبح شهواتهم ، وتعلمهم من الأعمال ما هو مناط سعادتهم وشقائهم في ذلك الكون المُغَيّبِ عن مشاعرهم بتفصيله ، اللاحقِ علمُه بأعماق ضمائرهم في إجماله ، ويدخل في ذلك جميع الأحكام المتعلقة بكليات الأعمال ، ظاهرة وباطنة .
ثم يؤيدهم بما لا تبلغه قوى البشر من الآيات ، حتى تقوم لهم الحجة ، ويتم الإقناع بصدق الرسالة ، فيكونون بذلك رسلاً من لدنه إلى خلقه مبشرين ومنذرين ..” (26)
تلك هي النظرة القرآنية ، والعقيدة الإسلامية في الاصطفاء للأنبياء والمرسلين .. وفي تميزهم وامتيازهم .. وعصمتهم عن كل ما ينفّر أو يشين ..
إنهم ـ والأمم والأقوام ـ بمثابة العقول .. وهم حِلَق الوصل بين الحضرة الإلهية وبين عالم الشهادة ، يشرفون على الغيب بإذن الله ، ويبلغون نبأه إلى العالمين .. فهم في نهاية الشاهد ، وبداية الغائب ، يعيشون في الدنيا كأنهم ليسوا منها أهلها ، وهم وفد الآخرة في لباس من ليسوا من سكانها ..
إنه الإجلال والاحترام والتعظيم والتوقير .. وتقرير العصمة للأنبياء والمرسلين ..

* * *
وإذا كان الشيء يُظهر حسنَه الضدُّ .. وبضدها تتمايز الأشياءُ .. فإن المقارنة بين صورة أعلام الأنبياء ومشاهير المرسلين في كل من القرآن الكريم .. وفي أسفار العهد القديم هي الشاهد على صدق هذا الذي نقول :
ـ العصمة والتعظيم والتكريم في القرآن للأنبياء والمرسلين ..
ـ والإساءة ، والإهانة ، والازدراء ؛ لهؤلاء الأنبياء والمرسلين ، في أسفار العهد القديم ..
ومن ثم الإفضاء إلى نبعَيْن ينضحان موقفين مختلفين كلَّ الاختلاف من هؤلاء الأنبياء والمرسلين ..

الفارق بين الدعوة والتنصير ـ د. محمد عمارة

كثيرٌ من الأوروبيين والغربيين يسألون كثيرًا من المسلمين: لماذا تمنعون حرية التنصير في بلادكم الإسلامية، في الوقت الذي تدعون فيه إلى الإسلام في البلاد الغربية، وتنشرون فيها دينكم الذي يحرز انتصارات ملحوظة في خارج عالم الإسلام؟! 
وكثيرٌ من المسلمين يحارون في الجواب المنطقي والخالي من العصبية والتعصب عن هذا السؤال، والرأي عندي أننا لا بد أن نصارح هؤلاء السائلين بالفروق الجوهرية بين مكانة الإسلام في الدول الإسلامية وموقف هذه الدول منه وبين حال الدين في المجتمعات العلمانية الغربية وموقف تلك الحكومات العلمانية من الدين، مطلق الدين، والفارق بين منهاج الدعوة إلى الإسلام ومناهج التنصير والمنصِّرين. 
وهذه الفروق الجوهرية يمكن إجمال أهمها فيما يلي:
1- أن الإسلام يتميز بأنه دين ودولة، ومن ثم فإن حكومات الدول الإسلامية لا يمكن أن تكون محايدةً إزاء هذا الإسلام؛ لأنه مقوِّم من مقوِّمات الاجتماع والسياسة والتشريع والنظام، ومن ثمَّ فإن زعزعته هي زعزعة لمقوِّم من مقوِّمات المجتمع ونظامه، وليس هكذا حال الدين في المجتمعات العلمانية، وخاصةً في ظل النصرانية التي تَدَعُ ما لقيصر لقيصر، وتقف عند خلاص الروح ومملكة السماء؛ لأن إنجيلها ينص على أن مملكة المسيح عليه السلام هي خارج هذا العالم، وهي لذلك قد خلت من السياسة والقانون. 
ولهذه الحقيقة، ولهذا الفارق الجوهري، تنفرد المجتمعات الإسلامية بالنص في دساتيرها على أن الإسلام دين الدولة، وكما تجعل “منظومة القيم الدينية” هي “الآداب العامة” التي تحميها الدولة والقانون، ومن ثم فإن هذه الدولة الإسلامية تحافظ على دينها هذا، فلا تفتح الأبواب أمام حرية زعزعته أو ازدرائه والخروج على ثوابته في الاعتقاد والأخلاق والتشريع.
 إن الإخلاص للإسلام الدين، ومن ثمَّ حمايته، لا يقلان في الدول الإسلامية عن الإخلاص والحماية للوطن والولاء له، ومن ثمَّ تحريم وتجريم الخيانة له أو الخروج عليه أو التفريط فيه، وتلك خصيصة من خصائص المجتمعات الإسلامية؛ تفرِّق بينها وبين المجتمعات العلمانية واللا دينية، التي تقف حكوماتها محايدة إزاء الدين، مطلق الدين. 
ولقد رأينا مجتمعات غير إسلامية اتخذت لنفسها عقيدة فلسفية، مثل الماركسية في البلاد الاشتراكية والشيوعية، فحافظت عليها كمقوِّم من مقوِّمات الاجتماع ونظام الحكم، ومنعت بالدساتير والقوانين التبشير في مجتمعاتها بأية عقيدة مضادة لعقيدتها وفلسفتها. 
فالدولة القائم نظامها على عقيدة دينية أو مذهب فلسفي لها موقف متميز عن الدول التي تتخذ موقفًا محايدًا إزاء العقائد والديانات والفلسفات. 
2- أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يتعرَّض الآن إلى حرب ضروس معلَنة من قِبل مؤسسات الهيمنة السياسية الغربية، والمؤسسات الدينية الغربية، وكثير من مؤسسات الإعلام الغربية العملاقة، ومع ضعف إمكانات “الحمايات الفكرية” في البلاد الإسلامية المستضعفة كان منع حرية “التنصير الرسمي” هو بمثابة “حماية الصناعات الوطنية الضعيفة” في حال انعدام تكافؤ الفرص والإمكانات عند اجتياح الأقوياء للضعفاء. 
إن “النشرة الدولية لبحوث الإرساليات النصرانية” قد رصدت سنة 1991م ما لدى إرساليات التنصير الأمريكية وحدها من إمكانات، فإذا هي “جيش” فيه:
- (120.000) مؤسسة تنصيرية.
- (99.000) معهد لتأهيل المنصِّرين الرسميين وتدريبهم.
- (4208250) منصرًّا رسميًّا محترفًا.
- (82.000.000) جهاز كمبيوتر.
- (24.900) مجلة.
- (2.740) محطة للإذاعة والتلفاز.

ولقد أصدرت هذه المؤسسة التنصيرية ووزعت في عام واحد:
- (88610) كتب تنصيرية؛ وذلك غير نسخ “الكتاب المقدس” التي بلغ عدد ما وُزِّع منها في عام واحد (53.000.000) نسخة.

وفي مدارس هذه الإرساليات التنصيرية يدرس:
- (9.000.000) طالب في رياض الأطفال وحدها.. يدرسون في:
- (10677) مدرسة.

ولقد خصَّ إفريقيا وحدها من مؤسسات هذه الإرساليات التنصيرية:
- (140.00) منصِّر محترف.
- و(16.000) معهد للتنصير.
- و(500) مدرسة لاهوتية.
- و(600) مستشفى.

أما ميزانية هذا الجيش التنصيري فإنها تبلغ:
- (163 مليارًا من الدولارات)، ودخل الكنائس العاملة في هذا الحقل هو (9320 مليار دولار).

- وهذا “الجيش التنصيري” الأمريكي يقوده “معهد زويمر” الذي أقيم سنة 1978م، يمثِّل (المخ والجهاز العصبي) للحملة الأمريكية لتنصير المسلمين!.

فهل هناك ذرة من التوازن بين هذا الجيش الذي يمثل الكنيسة الأمريكية وحدها، وبين الأفراد المسلمين الذين يدعون إلى الإسلام؟! وهل يُرجح أن تُستنكر إجراءات “الحماية” التي تمنع “التنصير الرسمي” في البلاد الإسلامية المستضعفة إزاء هذا الاجتياح؟!

“الغزو الفكري والمسخ الحضاري
يعترف المنصِّرون بأن الإرساليات التنصيرية تعتبر أن نمو المادية والعلمانية قد يؤدي إلى تخفيف حدة العداء لتنصير المسلمين، فيتوسلون إلى تنصير المسلمين حتى بالكفر والجحود والإنكار المطلق للدين، ولقد رفضوا الالتزام بالحرية والإقناع في عملية التنصير، ولم يستبعدوا الجهود القسرية في تحويل المسلمين عن دينهم.

وعلَّقوا على بيانات (مجلس الكنائس العالمي) التي تتحدث عن الحوار والحرية والإقناع فقالوا:
- إن المجلس لا يرى الحوار بديلاً عن تحويل غير النصارى إلى النصرانية، بل ربما كان الحوار مرحلةً من مراحل التنصير، وإن هذه البيانات الجديدة لا تعني تخلي المجلس عن مواقفه المناصرة للجهود القسرية والواعية والمتعمدة والتكتيكية لجذب الناس من مجتمع ديني إلى آخر. 
- في ظل وجود مؤسسات عملاقة ذات إمكانيات بشرية وتقنية ومادية هائلة متخصصة في ميدان التنصير للمسلمين، فإن هذا التنصير قد خرج عن أن يكون مجرد دعوة إلى النصرانية ليصبح أداةً من أدوات الغزو الفكري والتغريب والمسخ الحضاري الذي يستعين على ذلك كله حتى بالاستعمار وجيوشه وحكوماته. 
ولقد رأينا ذلك وخبرناه وعانينا منه في إفريقيا وآسيا عندما تم تنصير قطاعات كبيرة من البلاد الإسلامية بواسطة الحماية الاستعمارية للمنصِّرين.
 حدث ذلك في الفلبين وإندونيسيا والجزائر، ويحدث ذلك الآن على أرض أفغانستان والعراق والشيشان والسودان والصومال؛ لذلك لم يكن التنصير- ولم يعد- مجرد دعوة إلى النصرانية لهداية إنسان إلى طريقها في الخلاص، وإنما كان لا يزال جزءًا من الحرب الاستعمارية الغربية على عالم الإسلام وأمته وحضارته في الوقت الذي لم يكن فيه للإسلام تاريخيًّا وحتى الآن مؤسسات تبشيرية، وإنما اعتمد في انتشاره على القدوة والأسوة الحسنة، وتمت أغلب انتصاراته في ظل الضعف والاستضعاف للحكومات التي حكمت بلاده 
- إن المسلمين الذين يدعون غيرهم إلى الإسلام لا يخلو هؤلاء المدعوون من إحدى ثلاث حالات:
أ- أن يكون المدعو وثنيًّا ليس على دين من الديانات السماوية الثلاث:
وفي هذا الحال تكون دعوة الوثني أو اللا ديني إلى الإسلام هي دعوةً إلى الإيمان بالديانات السماوية الثلاث التي يتفرد الإسلام بالإيمان بها والاحتضان لأصولها والاحترام لكتبها ورسلها، ومن ثم فإن الدعوة إلى الإسلام والتبشيرية بين الوثنيين واللا دينيين لا يمثِّل كفرًا أو ازدراءً لأيٍّ من الديانات السماوية، بل على العكس فإن فيه التبشير بكل نبوات السماء رسالاتها وشرائعها وكتبها ومنظومات قيمتها وأخلاقها. 
ب- وفي حال ما إذا كان المدعو إلى الإسلام يهوديًّا:
فإن دعوته إلى الإسلام لا تمثِّل ازدراءً لليهودية ولا النصرانية ولا كفرًا بهما، وإنما هي على العكس؛ تتضمَّن بقاء الإيمان والاحترام لليهودية وإضافة الإيمان والاحترام إلى النصرانية والإسلام؛ فانتقال اليهودي ونقله إلى الإسلام يُضيف إلى الإيمان باليهودية ولا ينقص من يهوديته، ولا يمثِّل أي ازدراء لكتابها ولا لشريعتها ولا لأنبيائها، وليس كذلك الحال في التبشير باليهودية إذا حدث؛ لأن الانتقال من المسيحية أو الإسلام إلى اليهودية فيه كفر بهما وازدراءٌ لهما؛ الأمر الذي لا يسوِّي بين دعوة اليهودي إلى الإسلام وبين دعوة النصراني أو المسلم إلى اليهودية من حيث الإيمان والاحترام وبين دعوة الديانات السماوية الثلاث. 
ج- وكذلك الحال إذا كان المدعو إلى الإسلام نصرانيًّا:
فإن انتقاله من النصرانية إلى الإسلام فيه الحفاظ على إيمانه باليهودية وبالنصرانية مع إضافة الإيمان بالإسلام؛ كتابِه وشريعتِه ورسولِه إلى ما لديه من إيمان؛ فليس في هذه الدعوة للنصراني إلى الإسلام أي كفر بمجمل ما لديه، ولا أي ازدراء لوصايا إنجيله ومنظومة القيم والأخلاق الحاكمة لإيمانه الديني. 
إنها دعوة له كي يصعد درجةً على “سُلَّم النبوات والرسالات والكتب والشرائع التي توالى نزولها من الله الواحد إلى الإنسان.. إنها دعوةٌ إلى إضافة قداسة مكة وحرمتها إلى قداسة القدس وحرمتها، وليست انتقاصًا من قداسة مقدسات الآخرين، بينما دعوة النصرانيِّ المسلمَ إلى النصرانية فيها دعوة إلى الكفر بدينٍ سماوي والجحود بكتاب سماوي والازدراء لرسول الإسلام وشريعته الخاتمة.

صنع الكوارث
نواصل الرد على تساؤل الغربيين لكثيرٍ من المسلمين: لماذا تمنعون حرية التنصير في بلادكم الإسلامية، في الوقت الذي تدعون فيه إلى الإسلام في البلاد الغربية وتنشرون فيها دينكم؟
نقول: إن الاجتياح التنصيري لا يُخفي أنه
يعمل بالاعتماد المتبادل مع قوى أخرى عاتية؛ ففي “مؤتمر كولورادو” الذي عقدته الكنائس الأمريكية سنة 1978م لرسم الخطة الجديدة لتنصير المسلمين، أعلنوا أنهم إنما يعملون على تنصير المسلمين بالاعتماد المتبادل مع الكنائس المحلية، وبنص توصيات هذا المؤتمر: “يجب أن يتم كسب المسلمين عن طريق منصِّرين مقبولين داخل مجتمعاتهم، ويفضَّل النصارى العرب في عملية التنصير“!. 
كما يعمل هذا الاجتياح التنصيري بالاعتماد المتبادل مع المد الاستعماري الغربي في ديار الإسلام؛ فالجيوش التي زحفت على العراق في مارس سنة 2003م قد دخل في ركابها (800) منصِّر من عتاة قساوسة اليمين الديني الأمريكي، معلنين- كما جاء في (نيويورك) الأمريكية- أنهم قد جاءوا لنشر المسيحية في بغداد!!. 
وفي هذه البلاد التي ابتليت بالغزو الاستعماري يصنع الاحتلال الكوارث التي تخل بتوازن الضحايا ليأتيَ المنصِّرون يقدمون “المعونات” إلى هؤلاء الضحايا في مقابل تحولهم عن الإسلام!، وبنص وثائق “مؤتمر كولورادو“:
 “فإنه لكي يكون هناك تحول إلى النصرانية فلا بد من وجود أزمات ومشكلات وعوامل تدفع الناس خارج حالة التوازن التي اعتادوها، كالفقر والمرض، والكوارث والحروب، والتفرقة العنصرية والوضع الاجتماعي المتدني، وإن إحدى معجزات عصرنا أن احتياجات كثير من المجتمعات الإسلامية قد جعلت حكوماتها أكثر تقبلاً للنصارى والمنصِّرين“. 
فالاستعمار يصنع الكوارث في البلاد الإسلامية، والتنصير يستغل هذه الكوارث التي يعدها المنصِّرون “معجزة العصر”!؛ كي يبيع الضحايا إسلامَهم لقاء كسرة خبز أو جرعة دواء!. 
وعلى أرض كثير من البلاد الإسلامية التي اجتاحتها الجيوش الاستعمارية، وفي معسكرات ومخيمات اللاجئين المسلمين الذين يمثلون أغلبية اللاجئين على نطاق العالم!، يتم هذا المخطط للتنصير في أفغانستان والعراق، والسودان والصومال، والشيشان وداغستان، وإندونيسيا والفلبين… إلخ. 
كذلك يعمل هذا الاجتياح التنصيري بالاعتماد المتبادل مع ركائزه التي أقامها في البلاد التي احتلتها جيوش بلاده الاستعمارية، وكنموذجٍ لذلك كوريا الجنوبية؛ فلقد احتلتها الجيوش الأمريكية عقب الحرب العالمية الثانية، وحوَّلتها إلى قاعدةٍ عسكريةٍ أمريكيةٍ، ثم جاءت الكنيسة الأمريكية لتنصِّر ربع سكان كوريا الجنوبية، ولتجعل “كنيسة صايمل” التابعة لليمين الديني الأمريكي “قاعدة دينية” تزامل القاعدة العسكرية!، وليعمل المنصِّرون الكوريون مع المنصِّرين الأمريكيين جنبًا إلى جنب، وبتمويل أمريكي، حتى لقد بلغ عدد المنصِّرين الكوريين الرقم التالي على النطاق العالمي لعدد المنصِّرين الأمريكيين!. 
ولقد أرسلت هذه الكنيسة الكورية إلى البلاد الآسيوية وحدها (16.000 منصِّر)؛ كان نصيب البلاد الإسلامية منهم (25%) من هؤلاء المنصِّرين الكوريين!، بل لقد امتد نشاطهم إلى القارة الإفريقية.. وإلى مصر بلد الأزهر الشريف، فنشرت صحيفة (الأهرام) في 10/9/2007م أن هؤلاء المنصِّرين يعملون تحت لافتات أخرى في عشر محافظات مصرية!!. 
كذلك يعمل هذا الجيش التنصيري العالمي- باعتراف وثائق مؤتمر كولورادو- بالاعتماد المتبادل مع “العمالة المدنية” الغربية المنتشرة في مختلف بلاد الإسلام، وهي العمالة التي يفوق عددها عدد المنصِّرين الرسميين مائة ضعف!!، فيدرِّبها المنصرون الرسميون على التنصير في معسكرات منظمة، ويوجهونها إلى تنصير المسلمين، وخاصةً في البلاد الإسلامية التي لا تفتح أبوابها للمنصِّرين الرسميين!. 
فهل بعد هذه الإشارات- وهي مجرد إشارات إلى حقائق الاجتياح التنصيري- يكون هناك وهم عن وجود تكافؤ في موازين القوى بين الدعوة إلى الإسلام و”التنصير” حتى يكون هناك تساؤل: لماذا يمنع المسلمون في بلادهم حرية التنصير لقاء حريتهم في الدعوة إلى الإسلام؟!
بل إن هذا المخطط التنصيري يعترف بأنه- في سبيل
تنصير المسلمين- يلجأ إلى “الميكيافلية” وتنحية القيم والأخلاق!، فهم يعلنون عزمهم على: 
اختراق القرآن بدلاً من مواجهته!، “وصب المضامين النصرانية في مصطلحاته وتأويلاته”!، وكذلك العمل من خلال الثقافة الإسلامية! وفي ذلك يقولون:
“من الممكن في بعض الأحوال الذهاب أبعد فيما يتعلق باستعمال المصطلحات القرآنية، مع اهتمام خاص بالثقافات الإسلامية، وتكييف اللغة لحروف خاصة، واستعمال الألقاب التبجيلية والتعبيرات القرآنية؛ وذلك مثل استخدام “بولس الرسول” للإله الإغريقي المجهول“!.
وكذلك إيقاع الأطفال غير المميزين في حبائلهم، وفي
ذلك يقولون: 
“وتسعى (رابطة تنصير الأطفال) و(إرسالية الخدمات الخاصة) إلى استمالة الأطفال إلى جانب المسيح عن طريق تنظيم اجتماعات الأطفال وتجمعاتهم في مدرسة يوم الأحد، وتقديم الوسائل السمعية والبصرية لتشجيع الأطفال على تسليم أرواحهم للمسيح“!. 
فبعد اصطياد الضحايا الذين أخلَّت الكوارث بتوازنهم يصطادون الأطفال قبل سن التمييز، بل إن هذه المنظمات التنصيرية تمارس تحت لافتات المنظمات الخيرية والإغاثية، عمليات خطف الأطفال لتنصيرهم.. حدث ذلك إبان حرب البوسنة والهرسك (1992- 1995م)، وأثناء كارثة “تسونامي” الذي أصاب إندونيسيا المسلمة سنة 2006م وأطفال دارفور السودانيين، وأطفال تشاد، ولقد تفجَّرت أحدث فضائح اختطاف الأطفال المسلمين التشاديين في نوفمبر سنة 2007م، وأحدثت أزمة مكتومة بين تشاد وفرنسا، كما اشتكى من هذه “النخاسة التنصيرية” الرئيس السوداني عمر البشير يوم 14 نوفمبر سنة 2007م، وأذاعت ذلك كله أجهزة الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية.

شرعية الدعوة الإسلامية ومشروعيتها
عن الفارق الجوهري بين دعوتنا الآخرين إلى الإسلام ودعوتهم لنا إلى شرائعهم تحدث الصحابي حاطب بن أبي بلتعة (23 ق.هـ 30هـ/ 586- 650م) في حواره مع المقوقس عظيم القبط سنة 7هـ/ 628م عندما حمل إليه رسالة رسولنا؛ فلقد جاء في هذا الحوار ما يؤكد هذه الحقيقة؛ حقيقة أن الدعوة إلى الإسلام هي دعوة إلى “إضافة” وليست دعوة إلى “انتقاص” أو “كفر” أو “جحود” أو “ازدراء”، كما هو الحال في دعوات الآخرين وتبشيرهم؛ الأمر الذي يعطي الشرعية والمشروعية والمنطق والعدل للدعوة إلى الإسلام على وجه الخصوص والتحديد، لقد بدأ المقوقس بسؤال حاطب: 
- ما الذي يمنع صاحبك- أي الرسول- إن كان نبيًّا أن يدعوَ عليَّ فيُسلَّط عليَّ؟!
- فأجاب حاطب: منعه الذي منع عيسى ابن مريم أن يدعوَ على من أبى عليه أن يُفعل به ويُفعل!.

فوجم المقوقس ساعة- أي فترة- ثم استعاد إجابة حاطب فأعادها عليه حاطب، فسكت المقوقس.

وهنا استأنف حاطب الحوار، فقال للمقوقس:
“إن لك دينًا- أي النصرانية- لن تدعه إلا لما هو خيرٌ منه، وهو الإسلام الكافي به اللهُ فَقْدَ ما سواه، وما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكننا نأمرك به” . 
وهكذا… ومن اللحظات الأولى لخروج الدعوة إلى الإسلام من شبه الجزيرة العربية كانت الدعوة إلى الإسلام بمثابة “الإضافة” لا “الانتقاص” مما لدى الآخرين، وبمثابة المزيد من الاحترام لمجمل ما عندهم، لا الازدراء لأيٍّ من الثوابت التي اجتمعت عليها طوائفهم ومذاهبهم، وبمثابة إضفاء القدسية على جميع الرموز الدينية، التي لم يتم تقديس جميعها إلا في إطار الإسلام. 
إن اليهودي كافر بالنصرانية وبالإسلام، وجاحد لهما، ومزدرٍ لرموزهما وعقائدهما؛ فإذا دخل اليهودي في النصرانية أضاف الإيمان بها والاحترام لها ما كان لديه، وظل على كفره وجحوده وازدرائه للإسلام، فإذا ما دخل النصراني في الإسلام فإنه يضيف إلى إيمانه واحترامه لليهودية والنصرانية الإيمان والاحترام للإسلام، ولكل مواريث النبوات والرسالات والشرائع والكتب التي مثلت هدي السماء إلى الإنسان على مر تاريخ النبوات والرسالات. 
إن اليهودي هو أشبه ما يكون- إزاء الديانات السماوية- بالحاصل على “شهادة الإعدادية”؛ فإذا دخل النصرانية كان كمن أضاف “شهادة الثانوية” إلى “الإعدادية”؛ فإذا دخل النصراني إلى الإسلام كان كمن أضاف “الشهادة الجامعية” إلى “الإعدادية” و”الثانوية“. 
ومن هنا كان الفارق الجوهري بين التبشير بالإسلام والتبشير بغيره من الأديان.. فارق الإضافة إلى الإيمان والاحترام للرموز الدينية بدلاً من الانتقاص والازدراء. 
إن الفيلسوف الفرنسي “روجيه جارودي” عندما اعتنق الإسلام قد أضاف إلى إيمانه بموسى وعيسى الإيمانَ بمحمد، وأضاف إلى إيمانه بالتوراة والإنجيل الإيمانَ بالقرآن، وأصبح داعيةً إلى ملة إبراهيم، الذي هو الأب لجميع هؤلاء الأنبياء. 
بينما سلمان رشدي الذي ارتد عن الإسلام قد نكص عن الإيمان بالإسلام وكتابه وشريعته ورسوله، وأحلَّ ازدراءه لهذا الدين السماوي محلَّ الاحترام الذي كان قائمًا قبل الارتداد؛ ذلك أن التصديق بالوحي القرآني هو تصديق بمطلق الوحي الإلهي لجميع الأنبياء والمرسلين على امتداد تاريخ النبوات والرسالات ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ

سقوط القارونية الأمريكية د.محمد عمارة

فور سقوط الشيوعية وأحزابها وحكوماتها ومعسكرها الاشتراكي سنة1991 م أعلن اليمين الديني الأمريكي والمحافظون الجدد وأقطاب وقساوسة المسيحية الصهيونية عن انفراد أمريكا بالسيادة المطلقة على العالم، وتفردها بالحاكمية في البشر أجمعين
ولقد انبرى فلاسفة اليمين الديني الأمريكي للتنظير لهذا الإعلان ففوكوياما قد أعلن أن الرأسمالية الليبرالية في نهاية التاريخ وأنها على الشاطئ الذي يجب أن تتطلع للوصول إليه كل الأمم والشعوب والفلسفات والحضارات.
و”هانتنجتون” قد أعلن أن سبب سيادة أمريكا وليبراليتها هو الصراع والصدام لقهر واحتواء كل الحضارات وان البداية في هذا الصراع ستكون مع الحضارة الإسلامية ثم مع الحضارة الصينية ـالكونفشيوسيةـ وبعد الفراغ من هزيمة هاتين الحضارتين واحتوائهما ينعطف الغرب بقيادة أمريكا لاحتواء الحضارات الأخرى اليابانية والهندية والأرثوذكسية والأفريقية التي حيدها أبان الصراع والصدام مع المسلمين والصينيين لتنفرد أمريكا والغرب بالسيادة والحاكمية على البشرية جمعاء
ولقد صاحب هذا التنظير الفلسفي إعلان الإدارة الأمريكية مع الاحتفال بالألفية الثالثة لظهور المسيحية إن القرن الواحد والعشرين هو قرن الإمبريالية الأمريكية ،هكذا بصراحة بل بوقاحة لا لف فيها ولا دوران.
وكانت أحوال الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001 م هي الفرصة السانحة لوضع هذه الفلسفات وهذه الإعلانات في الممارسة والتطبيق أي البدء بالصراع والصدام مع الحضارة الإسلامية كمدخل لاحتواء كل الحضارات.
فبعد أربعة أيام من 11 سبتمبر وقبل بدء التحقيق في هذا الحدث أعلن الرئيس بوش الصغير في 16 سبتمبر حملة صليبية على العالم الإسلامي وفى الشهر التالي أكتوبر سنة2001 م غزت أمريكا أفغانستان ثم جرت معها الحلف الأطلنطي إلى هناك .
وفى مارس سنة 2003 غزت أمريكا العراق ومع إسقاط بغداد بدا وكأن الحلم الأمريكي المجنون قد انتصر وتحقق على أرض الممارسة والتطبيق ولقد أعلن الساسة الأمريكيون ـ ساسة اليمين الديني والمحافظون الجدد والمسيحية الصهيونيةـ أن أبواب التاريخ قد فتحت على مصراعيها أمام القار ونية الأمريكية لتزداد صعودا في الغنى والثراء وذلك بعد السيطرة على منابع النفط حول بحر قزوين وفى الشرق الأوسط الذي آراءه جديدا تتمدد فيه الصهيونية على حساب العروبة والإسلام
كما أعلنوا بلسان وزير الدفاع يومئذ “رونالد رامسفيلد” عن أن الفرعونية الأمريكية قادرة على المحاربة في ثلاث جبهات في وقت واحد ومن ثم دعموا الغزو الأثيوبى للصومال سنة2005 م لضمان السيطرة على بحر البترول الأفريقي الذي تعوم فوقه دول الحزام الإسلامي الممتد من شرق أفريقيا إلى غربها.
هكذا بدا المشهد .. مشهد جنون القوة الأمريكية الذي مثلته الإدارة البوشية الأمريكية غداة إسقاط كابول وبغداد ومقديشو … فالفرعونية الأمريكية تحارب على ثلاث جبهات … والقار ونية الأمريكية تسيطر على مخزون البترول العالمي في النظام العالمي ويمنع ظهور رأى قطب جديد ينافسها في التحكم بعالم القرن الواحد والعشرين، لكن رعاة البقر الذين أصيبوا بجنون البقر ،الذين لا تاريخ لهم قد غفلوا عما تخبئه لهم السنة الحاكمة على مر التاريخ.

رسالة الأب "متى المسكين" ـ د. محمد عمارة

وإذا كنا قد أشرنا إلى مقتطفات من كتابات العقلاء والحكماء.. الذين دعوا إلى وقوف الكنيسة عند رسالتها الدينية والروحية ـ التاريخية ـ التي عينها لها المسيح ـ عليه السلام ـ.. أي الوقوف عند خلاص الروح وتوبة الخطاة.. فلابد من الإشارة إلى رأس هؤلاء العقلاء الحكماء، أنجب من أفرزه اللاهوت الأرثوذكسي المعاصر: الأب متى المسكين (1919 ـ 2006م) الذي مثل القيادة الحكيمة للتيار اللاهوتي الداعي إلى وقوف الكنيسة.. عند ما لله ـ وترك ما لقيصر والدولة والمجتمع والسلطان.. والذي كتب في هذا الموضوع الكتب والدراسات والمقالات النفيسة.. والذي تعرض ـ هو وأتباعه ـ للحصار والاضطهاد ـ بل والتكفير والحرمان الديني! ـ من تيار الطائفية العنصرية الذي اختطف الكنيسة الأرثوذكسية منذ سبعينيات القرن العشرين..
وإذا شئنا أن نقدم نماذج من كتابات هذا الحبر العظيم ـ الأب متى المسكين ـ حول الرسالة الحقيقية للكنيسة، فإننا نقدم هذه السطور التي قال فيها:
“إن الخطيئة هي مدخل المسيحية إلى الإنسان.. وإن المسيح يهتم أبدًا كيف يرتب حياة الخاطئ لمّا يتوب، أو يشرّع قوانين مدنية.. المسيح لم يعِد الخطاة التائبين بشيء من مُلك هذا العالم، بل ثبّت قلب التائب نحو مُلك السماء.. ملكوت الله ليس ملكوتًا زمنيًا، فلا تترقب مجيئه عبر الزمان..
لم يجمع السيد قط ولم يخلط أبدًا بين مملكة الله ومملكة هذا الدهر. نقرأ عنه أنه “لما أرادوا أن يختطفوه ويجعلوه ملكًا، أنصرف وحده” ـ يوحنا 6: 15 ـ .
التوبة شغل الكنيسة الشاغل لأنها رسالتها.. فإذا رفعنا المناداة بالتوبة من الكنيسة لا يتبقى لها عمر آخر.. وخارجًا عن التوبة لا يوجد عمل ولا خدمة داخل الكنيسة وخارجها..
ومحاولة الكنيسة الاهتمام بالأمور الدينية باسم المسيح هو بمثابة تنصيب المسيح ملكًا على الأرض. ومحاولة تقوية سلطان الكنيسة الزمني والمطالبة بحقوق للجماعة هو رجعة لإقامة مُلك المسيا كما يحلم به اليهود..
إن أخطر عدو يهدد كيان المسيحية بالانحلال هو أن يهتم الكارزون في الكنيسة بموضوع آخر غير “خطيئة الإنسان” فيتركوا عنهم دعوة المسيح للخطاة التي كانت مهمته الأولى، والعظمى، وينشغلوا بالإنسان من جهة حياته الاجتماعية. هذا ليس خروجًا عن المسيحية فحسب، ولكنه مقاومة..
إن المسيحية تتعرض في هذه الأيام لنفس المحنة ـ (التي تعرضت لها على أيدي الفرنسيين) ـ والكنيسة تواجه نفس الضربة، لأن بعض الكارزين يحاولون الآن الخروج بالمسيحية عن موضوعها، بسبب انعدام قدرتهم على الكرازة بالتوبة لتجديد الإنسان وخلاصه، وإن الخسارة التي ستجنيها الكنيسة من جراء ضم مواضيع جديدة للكرازة سوف تنتهي أخيرًا بانطفاء سراج المناداة بالتوبة لخلاص الخطاة الذي ظل ينير الكنيسة ويضم لها كل يوم الذين يخلصون. الأمر الذي كان يخشاه بولس الرسول، والذي من أجله حارب وحوشًا في أفسس، وجاهد وغلب، ثم تركه وديعة لتلميذه تيمو ثاوس ليحارب حروب الرب من أجله أيضًا، ويسلمه تراثًا أبديًا للكنيسة..
ولكن الكارزين في هذه الأيام فقدوا الطريق الموصل لقلب الإنسان، فأخذوا يدورون حوله إلى ما لا نهاية.
والمفتاح المقدس الذي سلمه الرب للكنيسة ليدخلوا به إلى قلب الخطاة ضاع. والمفتاح كان المناداة بالتوبة..
لقد يئس الخاطئ، وتبلدت نفسه، وكرهت روحه الحق..
إن المفتاح الكبير الذي سلّمه الرب للكنيسة لتفتح به ملكوت السموات للخطاة، أينما شاءت وكيفما شاءت، فقدته. لقد ضاع المفتاح الكبير لما انشغلت الكنيسة بأموال الدنيا وأملاك العالم، وتلاهت عن خلاص الخطاة.
نعم، لا يستطيع الإنسان أن يعبد ربّين، ولا أن يخدم سيدين..
إن أي محاولة للجمع بين ملكوت الله، كهدف اختصاص المسيحية، مع أهداف أخرى، مثل المطالبة بحقوق خاصة للكنيسة للاشتراك في الحكم أو في إدارة سياسة الدولة، أو المطالبة بحقوق خاصة لتملّك شيء من أمجاد هذه الدنيا، أو السعي ليكون للكنيسة شيء من النفوذ أو السيادة، هذه المحاولة معناها الخروج عن هدف الاختصاص في المسيحية، الذي هو ملكوت الله..
كذلك كل محاولة لاستخدام السلطان، سواء كان سلطان الدين أو السلطان الزمني، أو استخدام التهديد والوعيد، أو استخدام العقوبة أو المقاطعة لإجبار الخاطئ على التوبة، يعتبر هذا كله عمل اغتصاب وسلبًا لمشيئات الناس واستعبادهم باسم الدين والكنيسة..
وسيان، من حيث الخطورة والدوافع المنحرفة، أن تطلب الكنيسة القوة من السلطان الزمني، أو تحض على الاستهتار بقوة السلطان الزمني، لأن في الأول خروجًا عن اختصاص الكنيسة، وفقدانًا لمصدر قوتها الروحية ـ كما أثبتنا ـ.. وفي الثانية خروجًا على المنطق المسيحي ووصية الإنجيل، ووقوعًا في دينونة الله، لأن الكتاب يقول: “المقاومون (للسلطان) يأخذون لأنفسهم دينونة” ـ رومية 13: 12 ـ ..
وعلى الكنيسة أن تدع المواطن المسيحي يتحرك بحرية في كل الاتجاهات كما يشاء، وكما تمليه عليه تربيته ونشأته وثقافته، ويتحمل هو تبعة تحركه. وتظل الكنيسة فوق كل هذه التحركات جميعًا، تعمل في اختصاصها لخلاص نفسه وإهداء أقدامه في طريق ملكوت الله..
ويشهد التاريخ ويروي أنه كلما خرجت الكنيسة عن اختصاصات مسيحها، وبدأت تنزع إلى السلطان الزمني، وتجيّش الجيوش باسم الصليب، وزاغت وراء أموال الأغنياء، ارتمت في أحضان أصحاب النفوذ، وحاولت محاولات جدية وعنيفة للجمع بين السلطان الديني والسلطان الزمني، ودأبت على المطالبة بحقوق عنصرية وطائفية، فشلت المسيحية في تأدية رسالتها، ودب فيها الخصام والنزاع والوهن، وفقدت شكل مسيحها كمنادية بالتوبة، وضاع منها الخروف الضال.
ولما انشغلت بأمجاد الدنيا قُفل في وجهها باب الملكوت، وصارت في حاجة إلى من ينتشلها من ورطتها، ويردها إلى حدود اختصاصاتها الأولى..”(1)

***
هكذا تحدث رأس العقلاء وحكيم الحكماء ـ الأب متى المسكين ـ عن رسالة الكنيسة ـ كما حددها لها المسيح ـ عليه السلام ـ ..
كما تحدث عن الانقلاب على هذه الرسالة، والمطالبة “بحقوق عنصرية وطائفية”، على النحو الذي أفقد الكنيسة طبيعتها، وخرج بها عن اختصاصاتها الأولى..
وحذر من عاقبة هذا الانقلاب :”فشل المسيحية في تأدية رسالتها”..
نعم.. هكذا تحدث الأب متى المسكين عن الكنيسة ورسالتها.. وعن محاولات الانقلاب على هذه الرسالة.. وظل رافعًا لرايات النصح والإرشاد، دونما رهبة من الحيف الذي أصابه جزاء كلمة الحق التي أعلنها ودافع عنها هو وتياره اللاهوتي ـ في دير القديس أنبا مقار ـ بيربة شيهيت ـ ..
فكان ـ ولا يزال ـ النموذج للقائد الروحي.. والابن البار للكنيسة الوطنية المصرية.. الذي لم يستبدل بمسيحيتها المسيحية الأمريكية لمجلس الكنائس العالمي ـ كما صنع الآخرون ـ الذين سقطوا في مستنقع الطائفية العنصرية!..
لقد أدان “انشغال الكنيسة بأمجاد الدنيا.. ولهاثها وراء أموال الأغنياء ـ فضلاً عن تمويل الأعداء!!ـ .. ومحاولات “الجمع بين السلطان الديني والسلطان الزمني”.. والعمل على “الاستهتار بقوة السلطان الزمني”.. وأساليب “التهديد والوعيد”.. والسعي للمطالبة بحقوق خاصة للكنيسة للاشتراك في الحكم أو في إدارة سياسة الدولة.. أو تملك شيء من أمجاد هذه الدنيا..”
ولقد وضع هذا الحبر العظيم ـ الأب متى المسكين ـ بهذه الكلمات التي استشهدنا بها ـ الدستور الذي ساد توجهات الكنيسة الشرقية تاريخيًا.. والذي انقلب عليه التيار الطائفي العنصري، الذي اختطف قيادة الكنيسة الأرثوذكسية منذ 14 فبراير سنة 1971م.

***
وبعد، فلقد اتخذتُ ـ في المشروع الفكري الذي توفرت عليه ـ هذا الموقف المتوازن، والحاسم من هذه القضية الخطيرة.. والحساسة.. والشائكة.. التي توضع مخططاتها الاستعمارية الآن في واقع الممارسة والتطبيق، على امتداد وطن العروبة وعالم الإسلام..
ـ فالأحزاب العلمانية الكردية، التي تحكم في شمالي العراق.. والتي تشكو من تجزئة القومية الكردية بين أربع دول عربية وإسلامية ـ العراق.. وسوريا.. وتركيا.. وإيران ـ تتجاهل أن القومية العربية قد جزئت بين أكثر من عشرين دولة.. وتنكص ـ هذه الأحزاب ـ عن “الحل الإسلامي”، الذي يجمع كل القوميات الإسلامية في إطار جامعة الإسلام، فنحيا لكل هذه القوميات إحياء خصوصياتها القومية في إطار جامعة الحضارة الإسلامية وتكامل دار الإسلام ـ كما كان الحالي في التاريخ الإسلامي، قبل “فتنة التفتيت والتعصب القومي” ـ..
لقد نكصت هذه الأحزاب العلمانية الكردية ـ التي أقامت العلاقات مع الكيان الصهيوني منذ ستينيات القرن العشرين، على يد الملا مصطفى البرزاني (1903 ـ 1979م).. لقد نكصت على أعقابها، عندما حكمت تحت حماية الإمبريالية الأمريكية، وبدعم الصهيونية العالمية، حتى عن لغة القرآن الكريم ـ التي سبق وخدمها الأكراد عبر تاريخهم الإسلامي المشرق ـ فتخرجت وتتخرج من مدارسهم وجامعاتهم عشرات الألوف الذين لم يدرسوا حرفًا واحدًا من لغة القرآن الكريم!!..
كما تحالفت ـ هذه الأحزاب الكردية العلمانية ـ مع الإمبريالية الأمريكية والصهيونية في مخطط العنصرية والتفتيت..
ـ وعلى جبهة التشيع الصفوي ـ الفارسي ـ .. هناك الذين جاءوا إلى العراق على ظهور الدبابات الأمريكية الغازية سنة 2003م.. ليفتتوا العراق ـ باسم الفيدرالية.. وليبيعوا ثرواته النفطية واستقلاله الوطني وحرمات ترابه العربي للإمبريالية الأمريكية لقاء الاستئثار بحكم العراق تحت حماية الأمريكان!..
ـ وعلى الجبهة المغاربية.. تعمل الأكاديمية الأمازيغية ـ التي أقامتها فرنسا الاستعمارية بباريس ـ على إحياء اللغة الأمازيغية.. وصناعة أبجدية لها.. واختيار إحدى لهجاتها، لتكون بديلاً للعربية، يفضي إلى سيادة الفرنسية بين الأمازيغ!!.. ناكصين بذلك عن الحقيقة التاريخية والحضارية التي تقول: إن الأمازيغ هم الذين نشروا العربية والإسلام في المغرب الكبير.. وأن العلماء ذوي الأصول الأمازيغية ـ ومنهم الإمام عبد الحميد بن باديس (1307 ـ 1359هـ ـ 1889 ـ 1940م) ـ هم الذين أعادوا الجزائر إلى أحضان العروبة والإسلام.. وهم الذين قادوا عملية التعري في مواجهة الفرنسة في بلاد المغرب العربي الكبير..
ـ وعلى الجبهة المارونية السياسية.. كلفت هذه المخططات لبنان حربًا أهلية دامية ومدمرة دامت خمسة عشر عامًا (1975 ـ 1990م) قبل أن تنتهي إلى وفاق هش بين الفرقاء الذين غلّبوا الطائفية على الانتماء القومي والحضاري الذي يسع الجميع..
ـ أما على الجبهة المصرية.. حيث تركز الإمبريالية والصليبية والصهيونية على تفتيت كنانة الله في أرضه.. فإن المعركة قائمة على قدم وساق.. وخاصة منذ انحياز قيادة الكنيسة الأرثوذكسية لهذا المخطط الطائفي العنصري الانعزالي، الذي يطمع إلى تغيير الخرائط.. والثوابت.. وهويات الحضارة والتاريخ!..
الأمر الذي يجعلنا نستنهض مواقف العقل والحكمة في أوساط هذه الأقليات، لمواجهة الخطر المحدق بالجميع!.

والانقلاب حتى على المسيحية.. والرهبنة!!! ـ د. محمد عمارة

إذن.. فنخن ـ بعد هذه الإشارات إلى:
ـ مخطط الفتنة الطائفية.. وجذورها منذ مطلع العصر الحديث.. وفي ظل الغواية الاستعمارية..
ـ وبعض وقائع أحداث تلك الفتنة.. في طورها الذي صاحب قيام الإحياء اليهودي الصهيوني..
ـ والفكر العنصري المنظر لهذه الفتنة ـ
واجدون أنفسنا ـ بعد هذه الإشارات ـ أمام انقلاب، ليس على هوية بلادنا ـ الوطنية.. والقومية.. والحضارية ـ فحسب.. بل أمام انقلاب طال ـ كذلك ـ طبيعة المسيحية ذاتها، وطبيعة الرسالة التاريخية لكنيستها ـ كما عرفتها الدنيا وتعارفت عليها عبر التاريخ..
ولقد سبقت إشارتنا إلى دور مجلس الكنائس العالمي ـ الذي أقامته المخابرات المركزية الأمريكية ـ عقب الحرب العالمية الثانية ـ في نفس العام الذي أقيم فيه الكيان الصهيوني على أرض فلسطين ـ دوره في إحداث هذا الانقلاب في طبيعة نشاط الكنائس وآفاق رسالتها.. وكيف جعل لهذه الكنائس ـ في بلاد الجنوب.. وخارج المعسكر الإمبريالي الغربي ـ مهام دنيوية ـ سياسية والاجتماعية واقتصادية ـ ليستخدمها في تحقيق مقاصد أمريكا الإمبريالية في الحرب الباردة وفي السيطرة على العالم، ووراثة الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة..
فهذه الديان المسيحية، التي تدع ما لقيصر لقيصر، وتكتفي بما لله.. والتي جعلت رسالة كنيستها “خلاص الروح ومملكة السماء” ـ لأن مملكة المسيح ـ عليه السلام ـ كما جاء في الإنجيل ـ ليست في هذا العالم ـ .. هذه المسيحية قد انقلبت ـ في عرف هذا التيار الطائفي العنصري الانعزالي ـ إلى اغتصاب ما لقيصر.. وإلى جعل الكنيسة حزبًا سياسيًا، ودولة داخل الدولة ـ وأحيانًا فوق الدولة!.. ومتصادمة مع الدولة! ـ الأمر الذي أدى إلى المواجهات المتوترة بين هذه الكنيسة وبين الدولة، لأول مرة في تاريخ علاقة هذه الكنيسة بالدولة.
ولقد صدرت أحكام قضائية ـ من أرفع مستويات القضاء المصري ـ مجلس الدولة ـ تدين هذا الانقلاب الذي أحدثته هذه الفتنة الطائفية في رسالة الكنيسة ومسيحيتها.. فجاء في حيثيات الحكم بالقضية رقم 934 لسنة 36 قضائية ـ بتاريخ 12/4/1983ـ:
“.. وقد صور الطموح السياسي لقيادة الكنيسة أن تقيم الكنيسة من نفسها دولة داخل الدولة، تستأثر بأمور المسيحيين الدنيوية، وخرجوا بالكنيسة عن دورها السامي الذي حدده لها المسيح عليه السلام في قوله: ردوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله..
كما سعى رأس الكنيسة إلى إثارة شعور الأقباط لحشدهم حوله، واستغل ذلك في الضغط على سلطات الدولة..
واستعدى الرأي العام العالمي على الحكومة المصرية، وأضر بسمعة البلاد.. وليس من شك في أن هذه التصرفات كلها تنطوي على تحد لسلطة الدولة”!(1)
هكذا صدر حكم القضاء ـ وهو عنوان الحقيقة ـ بإدانة هذا الانقلاب الذي أحدثته الطائفية العنصرية الانعزالية في طبيعة المسيحية ورسالة كنيستها..
ـ ولقد تبع هذا الانقلاب ـ الذي سجلته حيثيات حكم مجلس الدولة ـ على رسالة الكنيسة ـ ومن ثم التي مثلت، دينيًا وتاريخيًا: “الموت عن هذا العالم”، حيث يغير الراهب اسمه، ويتخلى عن أهله وذويه وكل العلائق التي تربطه بالدنيا، ليستخلص روحه وجسده للتوحد مع المجاهدات الروحية، والفناء فيما وراء هذا العالم.. يصنع ذلك في دير أو مغارة ـ “قلاية ـ صومعة” ـ منقطعة الصلات بالدنيا وشواغلها..
حدث الانقلاب على هذه الطبيعة ـ الدينية.. التاريخية ـ المستقرة لمعنى “الرهبنة” ووظيفتها في المسيحية.. فتحولت الأديرة المصرية إلى مؤسسات إنتاج إقطاعية.. وتحول الرهبان إلى السعي ـ صباح مساء ـ للاستيلاء على الأراضي المجاورة للأديرة وضمها إلى إقطاعيات هذه الأديرة.. بل وخوض النزاعات المسلحة لتحقيق هذه المقاصد الإقطاعية!!..
ويكفي للتمثيل على هذا الانقلاب ـ في معنى الرهبنة ورسالتها ـ وفي وظيفة الرهبان ـ أن نشير إلى النزاع المسلح الذي تفجر في 29 مايو سنة 2008م بين رهبان “دير أبو فانا” ـ بملوي ـ محافظة المنيا ـ بصعيد مصر ـ وبين أهالي “قصر هور” بسبب الاستيلاء على المساحات الشاسعة من الأرض المحيطة بالدير.. وكيف أن الرهبان كانوا يذهبون فيقيمون “قلاية” ـ صومعة ـ على بعد أكثر من ثلاثة كيلومترات من الدير، ثم يعمدون ـ بعد ذلك ـ لضم “القلاية” والمساحات الفاصلة بينها وبين الدير إلى إقطاعية هذا الدير!!.. الأمر الذي فجر نزاعًا مسلحًا له ضحاياه.. وتحركت له مظاهرات أقباط المهجر، متحالفة مع الدوائر الصهيونية، ودوائر اليمين الديني الأمريكي، والمسيحية الصهيونية، وساعية لاستصدار قرار من الكونجرس الأمريكية بإدانة مصر، وفرض العقوبات الأمريكية عليها!!..
كل ذلك، دفاعًا عن الانقلاب الذي حدث في معنى الرهبنة ورسالتها، وفي وظيفة الرهبان، الذين تركوا مملكة السماء، وحمل بعضهم السلاح للاستيلاء على الأراضي وضمها إلى إقطاعيات الدير!..
وحتى يعرف القارئ ـ المسيحي قبل المسلم ـ عمق هذا الانقلاب الذي حدث للرهبنة، وفيها، وعليها، يكفي أن نقدم سطورًا نشرتها صحيفة “وطني” ـ الأرثوذكسية ـ عن رهبنة الراهب “أبو فانا” ـ صاحب الدير الذي تفجرت فيه أحداث مايو سنة 2008م ـ ليرى القارئ ـ المسيحي قبل المسلم ـ الفارق بين مسيحية ورهبنة الراهب “أبو فانا” وبين مسيحية ورهبنة الرهبان الذين فجروا هذه الأحداث في الدير الذي يحمل اسمه..
لقد تحدثت صحيفة “وطني” عن الراهب ـ القديس ـ “أبو فانا” (355 ـ 415م) وكيف:
“أضنى جسده بالصوم الكثير، وتدرج في صوم الانقطاع حتى صار يصوم في الشتاء يومين يومين، وفي الصيف كان يتناول القليل من الخبز والماء والبلح الجاف عشية كل يوم. وكان دائم الوقوف على رجليه حتى تورمت قدماه، والتصق جسده بعظمه من شدة النسك فصار مثل خشبة محروقة. وكان كلما غلبه النعاس ينام وهو يستند متكئًا بصدره على جدار أقامه خصيصًا لذلك، أو يجلس على الأرض ويستند إلى الحائط، أو يضع رأسه على درجة.
فظل هكذا ثمانية عشر عامًا حتى اعتراه المرض من شدة النسك، فأتاه السيد المسيح ليدعوه ليتم جهاده المثمر، ويكشف له يوم نياحته ـ (موته) ـ فأحضر تلاميذه، وأخبرهم، وأشار بعمل قداس، وظل واقفًا طوال القداس والدود يتساقط من قدميه.. ثم تنيح ـ (مات) ـ بسلام..
ودفنوه بإكرام عظيم في ديره الموجود بالجبل الغربي ـ قصر هور ـ ملوي..”(2)

***
هكذا كانت المسيحية، عبر تاريخها، وهكذا كانت “الرهبنة” والرهبانية والرهبان ـ عبر التاريخ ـ ..
وهكذا تم الانقلاب على كل ذلك، تحت قيادة تيار الطائفية العنصرية الانعزالية، في الواقع المعاصر الذي نعيش فيه!..
ولقد تمت كل هذه الانقلابات في ظل المخطط الإمبريالي الأمريكي لتفجير وتفتيت مصر ووطن العروبة وعالم الإسلام، من خلال اللعب “بورقة الأقليات”!.

حقيقة إسلام الشعب المصري ـ د. محمد عمارة

هذا التنوع في الخريطة الدينية لمصر ـ عند الفتح ـ والذي يجعل الأرثوذكس ـ الذين كانوا مضطهدين دينيًا ـ يمثلون أقل من نصف تعداد الشعب المصري يومئذ ـ هذا التنوع الديني هو الذي يفسر الحقيقة البالغة الأهمية التي تقول:
إن الدولة الإسلامية ـ التي امتدت من المغرب إلى فارس ـ والتي ضمت قرابة الأربعين مليونًا من السكان ـ قد ظلت نسبة المسلمين فيها بعد قرن من الفتح الإسلامي عند حدود 20% من السكان.. اللهم إلا مصر، التي كانت أسرع البلاد دخولاً في الإسلام، لأن أكثر من نصف سكانها ـ النصارى الموحدون.. والوثنيون ـ قد اعتنق الإسلام مع بداية الفتح الإسلامي.. بينما ظل الأرثوذكس والأقلية اليهودية على دياناتهم..
لقد كان تعداد مصر ـ عند الفتح ـ (سنة 20هـ ـ سنة 641م) 2.500.000 نسمة.
وفي نهاية خلافة معاوية بن أبي سفيان (20ق.هـ ـ 60هـ ـ 603 ـ 680م) ـ أي بعد نحو نصف قرن من الفتح الإسلامي ـ كان قرابة نصف المصريين على نصرانيتهم ـ وهم الأرثوذكس الذين تمرسوا في الصمود على عقيدتهم إبان الاضطهاد الروماني.. والذين أتاح لهم الفتح الإسلامي حرية دينية لم ينعموا بها من قبل ـ .
وفي نهاية عهد هارون الرشيد (149 ـ 193هـ ـ 766 ـ 809م) ـ أي بعد مرور قرابة القرنين من الزمان على تاريخ الفتح الإسلامي ـ كان تعداد غير المسلمين بمصر ـ نصارى ويهود ـ 650.000 نسمة ـ أي نحو ربع السكان، البالغ عددهم يومئذ 2.671.000 نسمة ـ أي أن قطاعات من النصارى الأرثوذكس ـ بعد التعرف على الإسلام ـ قد بدأوا يتحولون إليه..
وحتى القرن التاسع الميلادي ـ أي بعد قرنين ونصف من الفتح الإسلامي لمصر ـ كانت نسبة غير المسلمين في سكانها ـ من النصارى واليهود ـ 20″ من هؤلاء السكان (1)
تلك هي حقائق التحولات الدينية التي جعلت أغلبية الشعب المصري تعتنق الإسلام منذ اللحظات الأولى للفتح الإسلامي.. والتي تجعل حديث الأنبا توماس عن “الضرائب.. والضغوط.. والطموحات” التي كانت سببًا في إسلام المصريين حديث “خرافة.. جاهلة” و”جهالة.. خرافية”..
فشهادة العلامة سير توماس أرنولد تقول:
“إنه من الحق أن نقول: إن غير المسلمين قد نعموا، بوجه الإجمال، في ظل الحكم الإسلامي، بدرجة من التسامح لا نجد لها معادلاً في أوروبا قبل الأزمنة الحديثة”(2)
وشهادة المستشرق الألماني الحجة آدم متز (1869 ـ 1617م) تقول:
“لقد كان النصارى هم الذين يحكمون بلاد الإسلام”(3)
وقبلهما كانت شهادة الأسقف يوحنا النقيوسي ـ الأسقف الأرثوذكسي.. شاهد العيان على الفتح الإسلامي ـ التي تقول:
“لقد نهب الرومان الأشرار كنائسنا وأديرتنا بقسوة بالغة، واتهمونا دون شفقة، ولهذا جاء إلينا من الجنوب أبناء إسماعيل لينقذونا من أيدي الرومان، وتركنا العرب نمارس عقائدنا بحرية.. ولم يأخذوا شيئًا من مال الكنائس، وحافظوا عليها طوال الأيام، وعشنا في سلام”(4)
تلك هي حقيقة إسلام الشعب المصري.. وسبقه وتسابقه إلى الإسلام..
وحتى الأرثوذكس ـ الذين ينتمي إليهم الأنبا توماس وأمثاله ـ فإن من الإهانة لهم أن يقال عنهم إنهم قد تحولوا إلى الإسلام لقاء دراهم معدودة كان المسلم يدفع أضعاف أضعافها في الزكاة.. لقد صمد هؤلاء الأرثوذكس قرونًا، وتمسكوا بعقيدتهم حتى عندما كانوا يقذفون بسببها إلى الأسود والسباع.. الأمر الذي يجعل من الإهانة لهم ـ ولحقائق التاريخ ـ أن يقال إنهم قد تركوا عقيدتهم بسبب الضرائب أو الضغوط أو الطموحات!..
ولكنه التعصب الأعمى الذي يقود أصحابه إلى الإساءة حتى إلى الذات.. أو الحب الجاهلي.. حب الدُّبة التي قتلت صاحبها من فرط الغرام!..
لقد أرجع العلماء واللاهوتيون الأوروبيون الكبار ـ ومنهم العلامة “كيتاني ـ ليون Caetani (1896 ـ 1926م) تحول نصارى الشرق نحو الإسلام إلى:
“وضوح التوحيد الإسلامي وبساطته وعمقه ونقائه، عندما قورن بالسفسطة المذهبية والتعقيدات العويصة التي جلبتها الروح الهلينية إلى اللاهوت المسيحي، الأمر الذي أدى إلى خلق شعور من اليأس، بل زعزع أصول العقيدة الدينية ذاتها. فلما أهلت أنباء الوحي الإسلامي من الصحراء، لم تعد المسيحية الشرقية، التي اختلطت بالغسن والزيف، وتمزقت بفعل الانقسامات الداخلية، وتزعزعت قواعدها الأساسية، واستولى على رجالها اليأس والقنوط من مثل هذه الريب، لم تعد المسيحية بعد تلك قادرة على مقاومة إغراء هذا الدين الجديد.. وحينئذ ترك الشرق المسيح وارتمى في أحضان نبي العرب..”(5)
تلك هي حقائق التاريخ.. وشهادات العلم والعلماء ـ من المسيحيين وليس من المسلمين! ـ ..
ـ كما يقول هذا الأسقف ـ في تعليل أسباب التوتر الطائفي في مصر ـ :
“إن الأصولية قد بدأت في مصر منذ السبعينيات. والقادة الآن هم نتاج هذا الاتجاه”
ـ ونحن نسأل:
أيهما أسبق، ما يسمى بأصولية السبعينيات؟.. أم الطائفية العنصرية الانعزالية، التي بدأت منذ الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798م؟.. ثم برزت ـ في ظل غواية الاستعمار الإنجليزي ـ بالمؤتمر القبطي سنة 1911م؟.. وجماعة الأمة القبطية سنة 1952م؟.. ومسلسل الفتنة الطائفية والصدام مع الدولة، الذي قادته الكنيسة منذ 14 نوفمبر سنة 1971م؟!..
إننا أمام تاريخ قديم لهذه النزعة الطائفية العنصرية الانعزالية، التي افتعلت “مشكلة قومية للأقباط”، لتفتيت مصر، والانقلاب على ثوابت الهوية والحضارة والتاريخ..
ولا علاقة لشيء من ذلك بما يسمى بالأصولية ـ التي يحرم أهلها ـ في مصر ـ من أبسط الحقوق والحريات! ـ ..
ثم.. أليست الأرثوذكسية هي قمة الأصولية ـ بالمعنى السلبي ـ الذي يتحدث عنه الغربيون والمسيحيون ـ ومنهم الأنبا توماس؟!.. فمن هم ـ بهذا المعنى ـ الأصوليون الحقيقيون؟!..
ـ وبعد كل هذه المغالطات والجهالات يعترف الأنبا توماس ـ في محاضرته ـ :
“بأن عقلية مصر قد تحولت بالكامل إلى عربية وإسلامية.. وإذا تسنى لك زيارة مصر فلا تجد فرقًا بين مسلم ومسيحي، حيث يتقابل الناس ويعاملون بعضهم بالمودة والمحبة في الشارع والمواصلات والمدارس.. لكنك على الجانب الآخر ستجد أشخاصًا آخرين لهم مواقف أخرى”!
ـ إذن.. فالدعوة العنصرية ـ دعوة النكوص إلى ما قبل أربعة عشر قرنًا ـ هي دعوة للخروج على عقلية مصر كلها، وإلى الصدام مع ذاتيتها الكاملة. وهي دعوة تريد شق صف شعب “لا فرق فيه بين مسلم ومسيحي”، لحساب بعض الأشخاص الآخرين!! ـ باعتراف الأنبا توماس! ـ . الحائز على جائزة “مركز الحرية الدينية” الصهيوني ـ بمعهد هديسون ـ اليميني ـ في أمريكا الإمبريالية سنة 1992م؟!..

***
إن العروبة ـ في مصر ـ هي خيار الشعب المصري، بكل دياناته.. ولقد غدت هذه العروبة ثقافة الأمة كلها، والرابطة التي تربط مصر بمحيطها العربي الكبير.. فهي خيار وطني.. ورابط قومي.. ومقوم من مقومات الأمن المصري.
وإن الإسلام ـ في مصر ـ هو خيار ديني لأكثر من 94″ من المصريين.. وهو خيار حضاري لجميع المصريين ـ المسيحيين منهم والمسلمين ـ ..
وإذا كانت العروبة والإسلام وافدين على مصر منذ أربعة عشر قرنًا.. فكذلك المسيحية وافدة على مصر.. و”الأقدمية” لن يستفيد منها سوى عبدة العجل أبيس!!
ـ وأخيرًا.. يقول هذا الأسقف ـ في نهاية محاضرته ـ أو “استغاثته الأمريكانية” ـ :
“إنه أمر مقلق أن أعدادًا كبيرة من المسيحيين تترك مصر والشرق الأوسط ككل.. المسيحيون يغادرون هذه المنطقة، وهذه علامة استفهام كبيرة، كما أنها أيضًا نداء للمعونة لمساعدة المسيحيين على البقاء في أوطانهم”!
ـ ونحن نقول: إذا كانت الهجرة المسيحية من الشرق عامة.. حتى في تركيا ـ الأتاتوركية ـ.. ولبنان ـ العلماني ـ .. والقدس وبيت لحم ـ تحت الاحتلال الصهيوني ـ .. والعراق ـ في عهد البعث العلماني وتحت الاحتلال الأمريكي ـ .. وسوريا ـ تحت حكم البعث العلماني ـ … إذا كانت الهجرة المسيحية عامة في كل هذه البلاد.. والرحيل المسيحي من كل الشرق ظاهرة عامة، رغم انتفاء الأسلمة في هذه البلاد.. فلم لا يبحث الأنبا توماس ـ وأمثاله ـ عن الأسباب الحقيقية لهذه الهجرة وهذا الرحيل؟!..
وهل من أسبابها التغريب الذي يدفع للنزوح إلى “نعيم الغرب”، وخاصة بعد سقوط نماذج التغريب والتحديث على النمط الغربي؟..
وهل من أسبابها الانفصال عن المشكلات الحقيقية للشرق، وعن التحديات التي فرضت على شعوبه؟.
لقد بدأت الهجرة المسيحية ـ من مصر ـ عقب صدور قوانين الإصلاح الزراعي.. وتمصير الشركات الأجنبية.. وقرارات التأميم ـ في خمسينيات وستينيات القرن العشرين ـ لأن الذين هاجروا ورحلوا كانوا مميزين وممتازين من قبل سلطات الاحتلال الإنجليزي والشركات الأجنبية.. فلم يعجبهم العدل النسبي الذي حققته ثورة يوليو سنة 1952م، والذي مس الاستغلال الإقطاعي والرأسمالي والإداري الذي كان من نصيب الأقلية، وعلى حساب الأغلبية!..
هكذا كانت البدايات.. والأسباب للهجرة والرحيل!..
ثم.. إن الطائفية والانعزالية تجعل من المسيحيين ـ الذين سقطوا في شراكها ـ جاليات أجنبية، تهرب من النضال المفروض على شعوب الشرق إلى الثراء والدعة في الغرب.. ولعل واقع “الرحيل” ـ رحيل المسيحيين عن الشرق ـ وليس عن مصر وحدها ـ يؤكد هذه الحقيقة.. وفي الجدول الآتي فصل الخطاب عن واقع الرحيل المسيحي حتى من البلاد التي ليس فيها أسلمة ولا تعريب:

ـ تركيا: عدد ـ أو نسبة ـ المسيحيين قبل الآن 2.000.000 في سنة 1920م = 15″
عدد ـ أو نسبة ـ المسيحيين الآن 80.000 = 1″
ـ إيران: عدد أو نسبة المسيحيين قبل الآن 300.000 في سنة 1979م
عدد أو نسبة المسيحيين الآن 100.000
ـ سوريا: عدد ـ أو نسبة ـ المسيحيين قبل الآن 33″ في سنة 1900م
عدد أو نسبة المسيحيين الآن 10″
ـ لبنان: عدد ـ أو نسبة ـ المسيحيين قبل الآن 55″ في سنة 1932م
عدد ـ أو نسبة ـ المسيحيين الآن أقل من 30″ مع ملاحظة أن حرب 2006 دفعت مليون للهجرة.
ـ القدس: عدد ـ أو نسبة ـ المسيحيين قبل الآن 53″ في سنة 1922م
عدد ـ أو نسبة ـ المسيحيين الآن 10.000= 2″
ـ بيت لحم: عدد ـ أو نسبة ـ المسيحيين قبل الآن 85″ في سنة 1948م
عدد ـ أو نسبة ـ المسيحيين الآن 12″
ـ فلسطين: عدد ـ أو نسبة ـ المسيحيين قبل الآن 20″ في سنة 1948م
عدد ـ أو نسبة ـ المسيحيين الآن 65.000= 10″
ـ الضفة الغربية: عدد ـ أو نسبة ـ المسيحيين قبل الآن (لا يوجد)
عدد ـ أو نسبة ـ المسيحيين الآن 51.000
ـ غزة: عدد ـ أو نسبة ـ المسيحيين قبل الآن (لا يوجد)
عدد ـ أو نسبة ـ المسيحيين الآن 3.500
ـ العراق: عدد ـ أو نسبة ـ المسيحيين قبل الآن 1.250.000 في سنة 1987م = 5″
عدد ـ أو نسبة ـ المسيحيين الآن 700.000 في سنة 2003م =3″ مع ملاحظة أنه بعد الاحتلال هاجر 350.000 والباقي 350.000 = 1.5″
ـ الأردن: عدد ـ أو نسبة ـ المسيحيين الآن 160.000 = 4″

أما في مصر: فإن نسبة الهجرة بين الشباب المسيحي تزيد عن 70″ من عدد المهاجرين ـ مع العلم أن نسبتهم لمجموع السكان هي 5.8″.. و95″ من تأشيرات “اليانصيب” الأمريكية هي للمسيحيين!..
كما أن إحصاءات سنة 2006م تقول: إن جملة مواليد المسيحيين المصريين ـ في العامة ـ هي 50.000 ومتوسط المتحولين منهم إلى الإسلام ـ سنويًا ـ هو من 40.000 إلى 50.000 (6)
الأمر الذي دفع عددًا من الكتاب والباحثين الأقباط ـ والأجانب ـ إلى الاعتراف ـ ولأول مرة.. وبعد أن كانوا يبالغون في أعدادهم ـ بأنهم يواجهون الانقراض خلال القرن الواحد والعشرين.
ـ لقد كتب الدكتور كمال فريد اسحق ـ أستاذ اللغة القبطية ـ بمعهد الدراسات القبطية ـ بحثًا عن “انقراض المسيحيين المصريين خلال مائة عام” ـ قال فيه:
“إن نسبة المسيحيين المصريين تقل تدريجيًا، وذلك لأسباب ثلاثة:
أولها: الهجرة إلى الخارج.
وثانيها: اعتناق عدد كبير منهم الدين الإسلامي.
وثالثها: أن معدل الإنجاب عند المسيحيين ضعيف، على عكس المسلمين.
وإن هؤلاء المسيحيين ـ لذلك ـ سينقرضون في زمن أقصاه مائة عام”(7)
ـ وكتب الباحث القبطي ـ سامح فوزي.. يقول
“إن تعداد المسيحيين في المنطقة العربية يصل إلى ما بين ثلاثة عشر وخمسة عشر مليونًا.. ويتوقع بعض المراقبين أن يهبط هذا الرقم إلى ستة ملايين نسمة فقط بحلول عام 2020م، نتيجة موجات الهجرة المتوالية للمسيحيين، وهكذا تصبح المنطقة العربية على شفا حالة جديدة يغيب فيها الآخر الديني، ويصبح الإسلام هو الدين الوحيد والمسلمون هم وحدهم أهل هذه البلدان..
وتشير الدراسات إلى أن تعداد المسيحيين في تركيا كان مليوني نسمة سنة 1920م ولقد تناقص الآن إلى بضعة آلاف.. وفي سوريا كان تعداد المسيحيين في بداية القرن العشرين ثلث السكان.. ولقد تناقص الآن إلى أقل من 10″.. وفي لبنان كان المسيحيون يشكلون سنة 1932م ما يقرب من 55″ من السكان.. ولقد أصبح عددهم الآن يدور حول 30″.. وفي العراق تناقص عدد المسيحيين من 800.000 ـ على عهد صدام حسين ـ إلى بضعة آلاف بعد الاحتلال الأمريكي.. وفي القدس.. قال الأمير الحسن بن طلال: إنه يوجد في “سدني” ـ باستراليا ـ مسيحيون من القدس أكثر من المسيحيين الذين لا يزالون يعيشون في القدس!”
والملاحظ أن كل البلاد التي تحدث سامح فوزي عن رحيل المسيحيين منها، ليس في أي منها أي لون من ألوان “الأسلمة” على الإطلاق!..(8)
ـ أما مجلة “نيوزويك” ـ الأمريكية ـ فلقد نشرت:
“إن الكثير من المسيحيين المصريين يرحلون عن مصر، هناك الآن ما بين 12 و15 مليون مسيحي عربي في الشرق الأوسط، ويمكن لهذا الرقم أن ينخفض إلى ستة ملايين فقط بحلول عام 2025م.
ولقد بدأت دول الشرق الأوسط تشهد تحولاً ملحوظًا من هذه الناحية: ففي سنة 1956م كان المسيحيون اللبنانيون يمثلون 56″ من مجموع سكان لبنان، أما الآن فليس هناك أكثر من 30″. وقد انخفض عدد المسيحيين في العراق من 1.4 مليون شخص سنة 1987م إلى 600.000 حاليًا. وكانت مدينة بيت لحم مسقط رأس السيد المسيح مدينة 80″ من سكانها مسيحيون حين تأسست دولة إسرائيل سنة 1948م، أما الآن فلا يمثل المسيحيون فيها أكثر من 16″.
وحسب “دروكر يستيانس” ـ رئيس تحرير “مجلة أمريكا” ـ فإنه في ظل هذا الرحيل الجماعي للمسيحيين العرب يتم فقدان الممارسات والثقافات القديمة. والمسيحيون الشرق أوسطيون في نهاية المطاف يخاطرون بالامتزاج في بحر المسيحية الغربية”!(9)
ونحن نلاحظ ـ مرة ثانية ـ أن البلاد التي تحدثت “نيوزويك” عن “الرحيل الجماعي” للمسيحيين عنها ـ لا علاقة لأي منها بأي لون من ألوان الأسلمة ـ التي تحدث عنها الأنبا توماس، باعتبارها الغول الذي يهدد المسيحية الشرقية، ويدفع المسيحيين الشرقيين إلى الرحيل!..
لكنه التعصب الأعمى، الذي يعمي المصابين به عن اكتشاف وتشخصين حقيقة الأمراض التي منها يعانون!..