05 يناير 2010

عبد الرحمن الداخل ‎(صقر قريش)‎‎

من قصص النجاح
لشاب غير التاريخ بأكمله في الأندلس
وسطر اسمه مع العظماء

وهو في عمر الخامسة و العشرين و مطارد
وليس لديه أي من أسباب النجاح الظاهرية
رحمة الله عليك يا عبد الرحمن


عبد الرحمن الداخل وقضاؤه على الثائرين

 
ذكرنا فيما سبق أنه في خلال الأربع والثلاثين سنة الممتدة
من بداية حكم عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل وحتى نهايته كان هناك أكثر من خمس وعشرين ثورة
في كل أنحاء الأندلس، وذكرنا أيضًا كيف روّض بعضها وقمع غيرها بنجاح الواحدة تلو الأخرى،
والتي كان من أهمّها ثورة العباسيين التي قام بها العلاء بن مغيث الحضرمي، وكيف تَمّ القضاء عليها.
وهنا يحق لنا أن نتساءل:
هل يجوز لعَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل أن يقاتل الثائرين وإن كانوا من المسلمين؟!
وحقيقة الأمر أن موقفه هذا في قتال الثائرين داخل أرض الأندلس لا غبار عليه؛
لأن الجميع كانوا قد اتفقوا عليه أميرًا للبلاد،
وقد جاء في صحيح مسلم عن عرفجة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ - أي مجتمع - عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ فَأَرَادَ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ
فَاقْتُلُوهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ.
ومن هنا فقد كان موقف عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل صارمًا مع الثوار؛
وذلك لقمع الانقلابات المتكررة والتي تُضعف من جانب الأمن والاستقرار في البلاد.
إلا إنه من الإنصاف أن نذكر أنه - رحمه الله - كان دائمًا ما يبدأ بالاستمالة والسلم وعرض المصالحة،
ويكره الحرب إلا إذا كان مضطرًا.
وبلا شك فإن ثمن هذه الثورات كان غاليًا جدًا،
ففي السنوات الأربع من بداية دخول عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلس،
من سنة 138هـ= 755 م وحتى سنة 142هـ= 759 م سقطت كل مدن المسلمين التي كانت في فرنسا،
وذلك بعد أن حكمها الإسلام طيلة سبع وأربعين سنة متصلة،
منذ أيام موسى بن نصير - رحمه الله - وحتى زمن سقوطها هذا،
وهكذا سنن الله الثوابت، ما إن شُغل المسلمون بأنفسهم إلا وكان التقلّص والهزيمة أمرًا حتميًا...

عبد الرحمن الداخل وبداية فترة الإمارة الأموية
 
بعد موقعة المسارة والسيطرة على منطقة قرطبة والجنوب الأندلسي
لُقّب عبد الرحمن بن معاوية بعبد الرحمن الداخل؛
لأنه أول من دخل من بني أمية قرطبة حاكمًا،
كما كان له كثير من الأيادي البيضاء على الإسلام في بلاد الأندلس كما سنرى.
ومنذ أن تولّى عبد الرحمن الداخل الأمور في بلاد الأندلس عُرفت هذه الفترة بفترة الإمارة الأموية،
وتبدأ من سنة 138هـ= 755 م وتنتهي سنة 316 هـ 928 م وسميت "إمارة"
لأنها أصبحت منفصلة عن الخلافة الإسلامية،
سواء كانت في عصر الخلافة العباسية أو ما تلاها بعد ذلك من العصور إلى آخر عهود الأندلس.
بدأ عبد الرحمن الداخل ينظّم الأمور في بلاد الأندلس،
كانت هناك ثورات كثيرة جدًا في كل مكان من أرض الأندلس،
وبصبر شديد وأناة عجيبة أخذ عبد الرحمن الداخل يروّض هذه الثورات الواحدة تلو الأخرى،
وبحسب ما يتوافق معها أخذ يستميل بعضها ويحارب الأخرى.
وفي فترة حكمه التي امتدت أربعة وثلاثين عامًا متصلة،
من سنة 138هـ= 755 م وحتى سنة 172 هـ= 788 م
كانت قد قامت عليه أكثر من خمس وعشرين ثورة،
وهو يقمعها بنجاح عجيبٍ الواحدة تلو الأخرى،
ثم تركها وهي في فترة من أقوى فترات الأندلس في التاريخ بصفة عامة.
 
صقر قريش وثورة العباسيين
 
كانت هناك واحدة فقط من هذه الثورات الخمس والعشرين هي التي سنقف عندها؛
وذلك لأهميتها الشديدة في فهم هذا الانفصال الذي حدث للأندلس عن الخلافة العباسية،
وهذه الثورة حدثت في سنة 146 هـ= 763 م،
أي بعد حوالي ثمان سنوات من تولي عبد الرحمن الداخل حكم الأندلس،
وقام بها رجل يُدعى العلاء بن مغيث الحضرمي.
كان الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور
(وهو الخليفة العباسي الثاني أو المؤسس الحقيقي للخلافة العباسية بعد أبي العباس السفاح)
قد راسل العلاء بن مغيث الحضرمي كي يقتل عبد الرحمن بن معاوية،
ومن ثم يضم الأندلس إلى أملاك الخلافة العباسية.
وبالنسبة لأبي جعفر المنصور فهذا يعدّ أمرًا طبيعيًا بالنسبة له؛
إذ يريد ضم بلاد الأندلس - وهي البلد الوحيد المنشق من بلاد المسلمين -
إلى حظيرة الخلافة العباسية الكبيرة، فجاء العلاء بن مغيث الحضرمي من بلاد المغرب العربي
وعبر بلاد الأندلس، ثم قام بثورة ينادي فيها بدعوة العباسيين،
ويرفع الراية السوداء التي أرسلها له الخليفة أبو جعفر المنصور.
لم يتوان عبد الرحمن الداخل، فقامت لذلك حرب كبيرة جدًا
بين العلاء بن مغيث الحضرمي وعبد الرحمن بن معاوية،
وكعادته في قمع الثورات انتصر عليه عبد الرحمن بن معاوية،
ووصلت الأنباء إلى أبي جعفر المنصور،
وكان في الحج بأن عبد الرحمن الداخل قد هزم جيش العلاء الحضرمي هزيمة منكرة،
وأن العلاء بن مغيث الحضرمي قد قُتل.
وهنا قال أبو جعفر المنصور:
قَتْلَنَا هذا البائس - يعني العلاء بن مغيث الحضرمي -
يريد أنه قتله بتكليفه إياه بحرب عبد الرحمن بن معاوية،
ثم قال:
ما لنا في هذا الفتى من مطمع
(يعني عبد الرحمن بن معاوية)،
الحمد لله الذي جعل بيننا وبينه البحر.
ومنذ هذه اللحظة والدولة العباسية لم تفكر لحظةً واحدة في استعادة بلاد الأندلس،
بل إن أبا جعفر المنصور الخليفة العباسي هو الذي سمّى عبد الرحمن بن معاوية بصقر قريش
وهو اللقب الذي اشتهر به بعد ذلك،
فقد كان أبو جعفر المنصور جالسًا مع أصحابه فسألهم:
أتدرون من هو صقر قريش؟
فقالوا له كعادة البطانة السوء:
بالتأكيد هو أنت...
فقال لهم:
لا.
فعدّدوا له أسماء حتى ذكروا له معاوية وعبد الملك بن مروان من بني أمية
فقال أيضا: لا.
ثم أجابهم قائلا:
بل هو عبد الرحمن بن معاوية،
دخل الأندلس منفردًا بنفسه،
مؤيّدًا برأيه، مستصحبًا لعزمه،
يعبر القفر ويركب البحر
حتى دخل بلدًا أعجميًا
فمصّر الأمصار وجنّد الأجناد،
وأقام ملكًا بعد انقطاعه
بحسن تدبيره وشدة عزمه.
وهكذا كان أبو جعفر المنصور العباسي معجبًا جدًا بعبد الرحمن بن معاوية،
وهو ما يمكن أن نسميه إعجاب اضطرار، أو هو إعجاب فرض نفسه عليه.
عبد الرحمن بن معاوية والخلافة العباسية
قضية الانفصال الطويل الذي دام بين دولة الأندلس وبين الخلافة العباسية
على مرّ العصور تثير في نفوسنا وفي نفوس جميع المسلمين تساؤلات عدّة،
لماذا يحاول عبد الرحمن بن معاوية الرجل الورع التقي
الذي أقام دولة قوية جدًا في بلاد الأندلس،
لماذا ينفصل بالكلية عن الخلافة العباسية؟!
ووقفة عادلة مع هذا الحدث وتحليله واستجلاء غوامضه
نستطيع القول بأن الدولة العباسية قد أخطأت خطأ فاحشًا بحق الأمويين،
وذلك بقتلهم وتتبعهم في البلاد بهذه الصورة الوحشية،
فإذا كان الأمويين في آخر عهدهم قد فسدوا واستحقّوا الاستبدال
فليكن تغييرهم، وليكن هذا الاستبدال، ولكن على نهج رسول الله صلى الله عليه و سلم.
كان من المفترض على الدولة العباسية القائمة على أنقاض الأمويين
أن تحتوي هذه الطاقات الأموية، وتعمل على توظيفها لخدمة الإسلام والمسلمين،
بدلًا من إجبارهم على خلق جيب من الجيوب
في صقع بعيد من أصقاع البلاد الإسلامية في الأندلس أو في غيرها من بلاد المسلمين.
كان من المفترض ألا تُفْرِط الدولة العباسية في قتل المسلمين من بني أمية
وهي تعلم حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم:
لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِءٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ:
الثَّيِّبُ الزَّانِي وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ
.
كما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
ما المانع من أن تقيم الحدّ على من يستحق أن يُقتل من بني أمية ثم تترك وتستوعب الآخرين؟!
وما المانع من أن تعطي الدولة العباسية بني أمية بعضًا من الملك،
مثل إمارة مدينة أو إمارة ولاية، وهؤلاء كانوا خلفاء وأبناء خلفاء؛
حتى تستوعبوهم في داخل الصف؟!
فهذا عبد الرحمن الداخل الذي نتحدث عنه يصيح في اليمنيين بعد موقعة المسارة
ويقول لهم حين أرادوا أن يتتبعوا الفارين من جيش يوسف بن عبد الرحمن الفهري:
اتركوهم لا تتبعوهم، ليضمهم إلى جيشه بعد ذلك،
فهكذا كان يجب على العباسيين أن يفعلوا، ويتركوا الأمويين يدخلون تحت عباءتهم
حتى يستطيعوا أن يكونوا لهم جندًا وعونًا لا نِدّا ومنافسًا، كما رأينا النتيجة بأعيننا.
وهذا أيضا المثل الأعلى والقدوة الحسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم
ماذا فعل بعد أن دخل مكة وكان أهلها قد آذوه هو وأصحابه وطردوهم منها،
وماذا قال عن أبي سفيان وهو من هو قبل ذلك؟
ما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن دخل متواضعًا وقال:
من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن.
أليس أبو سفيان هذا كان زعيم الكفر
وزعيم المشركين في أحد والأحزاب؟!
فلماذا إذن يقول عنه صلى الله عليه وسلم مثل هذا؟!
إنما كان يريد صلى الله عليه وسلم أن يخطب وده ويضمه إلى صفه،
وبالمثل فعل صلى الله عليه وسلم مع رءوس الكفر في مكه حين قال لهم:
ما تظنون أني فاعل بكم؟"
فقالوا:
خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم.
فرد عليهم صلى الله عليه وسلم بمقولته التي وعاها التاريخ:
اذهبوا فأنتم الطلقاء.
وليس هذا فقط من كرم الأخلاق فحسب، لكنه أيضًا من فنّ معاملة الأعداء،
وحسن السياسة والإدارة، فلنتخيل ماذا سيكون الموقف
لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقام الحد وقطع رؤءس هؤلاء
الذين حاربوا دين الله سنوات وسنوات؟!
بلا شك كان سيُحدث جيبًا من الجيوب داخل مكه،
وكان أهل مكه سينتهزون الفرصة تلو الفرصة
للانقلاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وللانفصال من الخلافة الإسلامية.
لكن العجب العجاب كان في نتيجة ذلك بعد وفاته صلى الله عليه وسلم،
فقد ارتدّت جزيرة العرب جميعها،
ولم يبق على الإسلام منها إلا المدينة المنورة ومكة المكرمة والطائف،
وقرية صغيرة تسمى هجر،
فقط ثلاث مدن وقرية واحدة،
أي أن مكة التي لم تدخل في الإسلام
إلا منذ أقل من ثلاث سنوات فقط قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم
كانت في تعداد هذه المدن القليلة جدًا التي ثبتت على الإسلام ولم ترتدّ،
وبلا شك فهو أثر فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم ينسوه،
فكان أن استُوعبوا في داخل الدولة الإسلامية، وثبتوا وقت الزيغ.
هكذا لو فعل العباسيون واستوعبوا الأمويين في داخل الدولة العباسية.
ولأنهم لم يفعلوا فكان أن اضطر من نجا من الأمويين اضطرارًا
إلى الذهاب إلى هذه البلاد والانشقاق بها عن دولة المسلمين.
وواقع الأمر يقول أنه لو كان عبد الرحمن بن معاوية
يضمن أن العلاء بن مغيث الحضرمي سوف يعفى عنه ويعطيه إمارة الأندلس،
أو أي إمارة أخرى من إمارات الدولة العباسية إذا سلّم الأمر إليه لفعل،
لكنه كان يعلم أنه لو قبض عليه لقتله في الحال
هو ومن معه من الأمويين إن كانوا مرشحين للخلافة،
وهذا بالطبع ما دفعه لأن يحاول مرة ومرتين وثالثة لأن يبقى على عهده من الجهاد ضد الدولة العباسية،
وهو أمر مؤلم جدًا وحلقة مفرغة دخل فيها المسلمون
نتيجة العنف الشديد من قبل الدولة العباسية في بدء عهدها،
ولا شك أن الدولة العباسية قد غيّرت كثيرًا من نهجها الذي اتبعته أولًا،
وتولّى بعد ذلك رجال كثيرون حافظوا على النهج الإسلامي،
بل إن أبا جعفر المنصور نفسه في آخر عهده كان قد غيّر ما بدأه بالمرة،
لكن كانت هناك قسوة شديدة بهدف أن يستتبَّ لهم الأمر في البلاد،
فمن يحاول أن يتذاكى على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم
فستكون العاقبة دائما هي الخسران،
وهكذا كان فقْدُ المسلمين لأرواحٍ طاهرةٍ ودماءٍ كثيرةٍ غزيرة وطاقاتٍ متعددةٍ،
بل فقدوا الأندلس فلم تعد مددًا للمسلمين طيلة عهدها،
فالعنف في غير محله لا يورث إلا عنفًا،
وطريق الدماء لا يورث إلا الدماء،
والسبل كثيرة، ولكن ليس إلا من سبيل واحد فقط،
إنه الطريق المستقيم طريق الله عز وجل
[وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]
{الأنعام:153}..

وللقصة بقية

ليست هناك تعليقات: