في ظلال السيرة
قبل المقدمة 1/2
كيف حدث التحول
هل آن الأوان أخيرا لأواجه حلم عمري ورعب عمري بعمل طالما تمنيت أن أختم به حياتي. ولم تكن أمنية من الأماني التي يطوف بالخيال أنها يمكن أن تتحقق.. بل كانت أقرب لحلم يقظة طويل لم ينقطع منذ طفولتي المبكرة.
هل آن الأوان لأتغلب على رعبي وخوفي وإحساسي أنني أقل من أن أكتب عن سيدي ومولاي وحبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هل آن الأوان لكي أكتب: "في ظلال السيرة"؟.. مستلهما الاسم من كتاب الشهيد العظيم-أحسبه كذلك- سيد قطب:"في ظلال القرآن"..وهل هي سيرة كاملة أم ومضات في ظلال السيرة..
هل آن الأوان لكي أجلس متأملا مبهورا مترددا محجما مقدما لا أكاد أغالب تهاطل دمعي كلما أدركت أنني أقدم على أمر أعظم من قدراتي بما لا يقاس..
وليس الأمر أمر قصور القدرة فقط..
وإنما.. يا لها من هيبة أن أجلس بين يديك يا سيدي ويا حبيبي يا رسول الله صلى الله عليك وسلم لأبدأ الكتابة في ظلال السيرة الشريفة .. مازلت خائفا وأرتعد..
مشاعري تجاه الخوف ضنينة..
أقر وأعترف أنني لا أهاب ملكا ولا رئيسا ولا أجهزة أمن.. لا أخشى حتى التنكيل ولا التعذيب وربما لا أخشى الموت شهيدا- بل أتمناه-.. لكنني أمام ظلال السيرة خائف وأرتعد.. لأنني في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم صعلوك يهاب حضرة الملوك .
أقر وأعترف أنني برغم صدق النية ومضاء العزم .. ومنذ أعوام.. أتقدم خطوة وأتأخر أخرى.
وأعترف.. أنه لولا ضغوط الكثيرين ممن حولي لما جرؤت على التقدم .. فإن جرؤت على التقدم لم أكن لأجرؤ على الاستمرار.. وفاق هذه الضغوط في القوة والإصرار والتأثير ضغطا حبيبا لم أكن أستطيع له ردا.. هو ضغط الأستاذ حسين عاشور رئيس تحرير هذه المجلة.. ولقد بلغ من شدة ضغطه من ناحية ولشدة احترامي له من ناحية أخرى أنني حياء تمنيت لو أني أفعل ما فعله معاوية الثاني عندما عرضت عليه الخلافة.. عرضوها عليه فخلع خفيه وانطلق هاربا في الصحراء لا يلوي على شيء فلم يعثر أحد له على أثر أبدا..
فماذا أفعل والكتابة عن السيرة أعظم وأخطر من الخلافة..
كيف أواجه؟
كيف أكتب؟!..
كيف أمثل في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!..
كيف أدّعي الفهم وأزعم الإحاطة..
كيف أعتلي منصة الأساتذة وأنا تلميذ كل ما يرجوه أن ينجح..
كيف أجرؤ..
فإذا جرؤت فأي منهج أتبع؟!
هل أكتب كما كتب ابن إسحاق وابن هشام..
ما أضعفني إزاءهما إذن..
هل أكتب كما كتب الطبري و ابن الأثير و الذهبي وغيرهم..
ما أضيعني إزاءهم إذن..
هل أكتب كما كتب العلامة ابن كثير المفسر و عالم الحديث وتلميذ ابن تيمية..
ما أضألني إزاءه إذن..
هل أكتب كما كتب القاضي عياض في كتابه "الشفا في التعريف بحقوق المصطفى" أم كما كتب البيهقي في "دلائل النبوة" و الترمذي في "الشمائل المحمدية..
هل أكتب كما كتب تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية : "الإمام ابن قيم الجوزية" في كتابه "زاد المعاد في هدي سيد العباد" الذي عدّ أيامها وما يزال فتحا في كتابة السيرة ومنهجها..
هل أكتب كما كتب أولئك العمالقة؟..
وهل أستطيع؟!
أم أتواضع لأكتب كما كتب محمد حسين هيكل في كتابه "حياة محمد" و محمد فريد وجدي في سلسلة مقالات بعنوان "السيرة المحمدية تحت ضوء العلم و الفلسفة" وحسن إبراهيم في "تاريخ الإسلام" مع ما في بعض كتابات بعضهم من انحراف واعتماد على مقولات باطلة للمستشرقين..
كيف أجرؤ على مطاولة قامات كقامة الشيخ محمد الغزالي الذي كنت معه أشد ميلا إلى عاطفته الجياشة وبصيرته أكثر من ميلي لمنهجية الشيخ الألباني ودقته .. أم أطاول قامة الشيخ البوطي.. في كتابيهما اللذين يحملان نفس العنوان:"فقه السيرة".. أو أطاول قامة كقامة صفي الدين المباركفوري في كتابه"الرحيق المختوم" الذي لم أقدره حق قدره إلا في القراءة الثانية.. أو محمد على الصلابي أو أكتب على منوال ذلك الكتاب البديع الموجز المعجز للدكتور أكرم ضياء العمري: "السيرة النبوية الصحيحة"- محاولة لتطبيق قواعد المحدثين في نقد روايات السيرة النبوية والذي يكشف كثيرا جدا من الروايات الضعيفة في السيرة رغم شيوعها وشهرتها..
هل أطمع في أن أقلد الجبل الأشم سيد قطب " في ظلال القرآن" وما أنا سوى صخرة على سفحه.
هل أكتب بمنهج رواية ( الحديث ) أم بمنهج رواية ( التاريخ والأخبار )؟.
هل أطبق في كتابتي عن السيرة منهج النقد عند المحدثين بكل خطواته على جميع الأخبار التاريخية وأن اشترط في مراجع التاريخ ما اشترطه العلماء في راوي الحديث من أربعة أمور : العقل والضبط والعدالة والإسلام (والشرط الأخير يستبعد تماما جل المستشرقين وكل العلمانيين).
هل أتشدد في الأخبار والمرويات أم أتساهل فيها.. أم ألجأ إلى منهج علماء الحديث من التشدد في أحاديث الأحكام والتساهل في فضائل الأعمال .
إن معاملة السيرة كالحديث سيتمخض عن فجوات خطيرة في التاريخ.. وفي هذا يقول الدكتور أكرم ضياء العمري في كتابه دراسات تاريخية : أما اشتراط الصحة الحديثية في قبول الأخبار التاريخية التي لا تمس العقيدة والشريعة ففيه تعسف كثير ، و الخطر الناجم عنه كبير ، لأن الروايات التاريخية التي دونها أسلافنا المؤرخون لم تُعامل معاملة الأحاديث ، بل تم التساهل فيها ، و إذا رفضنا منهجهم فإن الحلقات الفارغة في تاريخنا ستمثل هوّة سحيقة بيننا ، و بين ماضينا مما يولد الحيرة والضياع والتمزق والانقطاع .. لكن ذلك لا يعني التخلي عن منهج المحدثين في نقد أسانيد الروايات التاريخية ، فهي وسيلتنا إلى الترجيح بين الروايات المتعارضة ، كما أنها خير معين في قبول أو رفض بعض المتون المضطربة أو الشاذة عن الإطار العام لتاريخ أمتنا ، و لكن الإفادة منها ينبغي أن تتم بمرونة آخذين بعين الاعتبار أن الأحاديث غير الروايات التاريخية ، وأن الأولى نالت من العناية ما يمكنها من الصمود أمام قواعد النقد الصارمة .
تقول مدرسة من مدارس كتابة التاريخ أن التاريخ يتحول بهذا المنهج - الذي يقبل روايات غير محققة مما سيستتبع نوعا من التعدد وبالتالي الانتقاء- إلى عمل أدبي وليس علما..سيتحول إلى فن من الفنون.. ذلك أن ممارسة المنهج العلمي في التاريخ لا تعطينا إلا هياكل عظمية تفتقد إلى حرارة الحياة.. إن الكتابة الحقيقية للتاريخ تحتاج إلى شاعر وكاتب بارع حتى يكسو العظام لحما ويبث فيها الحياة كما يقول بعض علماء التاريخ ومنهم ج م تريفليان أستاذ التاريخ السابق بكمبريدج الذي يقول أيضا أن فاقد الانفعال والحماسة لا يمكن أن يكتب تاريخا لأنه لن يشعر بانفعالات غيره لذلك لن يستطيع تمثل انفعالات الأبطال التاريخيين الذين يكتب عنهم.
لكن الكتابة الانتقائية تعني موقفا مسبقا ومتحيزا لتفسير الحوادث..
يقول الإمام الشهيد –أحسبه كذلك- سيد قطب: في "التاريخ .. فكرة ومنهَاج":
"التاريخ ليس هو الحوادث ، إنما هو تفسير هذه الحوادث ، واهتداء إلى الروابط الظاهرة والخفية التي تجمع بين شتاتها ، وتجعل منها وحدة واحدة متماسكة الحلقات ، متفاعلة الجزئيات ، ممتدة مع الزمن والبيئة امتداد الكائن الحي في الزمان والمكان .ولكي يفهم الإنسان الحادثة ويفسرها ، ويربطها بما قبلها وما تلاها ، ينبغي أن يكون لديه الاستعداد لإدراك مقومات النفس البشرية جميعها : روحية وفكرية وحيوية ومقومات الحياة البشرية جميعها : معنوية ومادية . وأن يفتح روحه وفكره وحسه للحادثة ويستجيب لوقوعها في مداركه ولا يرفض شيئاً من استجاباته لها إلا بعد تحرج وتمحيص ونقد .فأما إذا كان يتلقاها بادئ ذي بدء وهو معطل الروح أو الفكر أو الحس عن عمد أو غير عمد – فإن هذا التعطيل المتعمد أو غير المتعمد ، يحرمه استجابة معينة للحادثة التاريخية أي أنه يحرمه عنصراً من عناصر إدراكها وفهمها على الوجه الكامل . ومن ثم يجعل تفسيره لها مخطئاً أو ناقصاً ."
لا يقتصر الخطأ في كتابة التاريخ إذن على الخطأ في الحوادث.. بل على الخطأ في الاستقبال والجمع والاختيار والفهم ثم التفسير..
ليس ثمة حل قاطع للمشاكل السابقة ولا للاحقة أيضا.. لقد قلنا أن كتابة السيرة بمنهج الحديث ستتمخض عن ثغرات خطيرة في التاريخ.. وعجزنا عن إعطاء إجابة قاطعة عن كون التاريخ علما أم فنا.. وسوف نعجز أيضا عن الإجابة عن سؤال يقول: إذا كان التاريخ كعلم هو "كتابة مجرى الحوادث الفعلي"وكان التاريخ كفن هو"التدوين القصصي لمجرى شئون العالم كله أو بعضه" كما يقول واحد من أهم أساتذة التاريخ المتوسط في جامعة لندن ف ج هرنشو فسوف تقابلنا مشكلة حلها شبه مستحيل.. إذ لا يمكن تصور أن أحدا يستطيع ""كتابة مجرى الحوادث الفعلي".. إننا لا نستطيع كتابة مجرى الحوادث الفعلي في الحاضر ولو على مستوى الأسرة أو البلدة الصغيرة .. لا نستطيع أن نسجلها بدقة كلية والأحداث تجري أمام أعيننا فكيف نستطيع ذلك في أحداث حدثت لمئات الملايين عبر عشرات القرون..(انظروا إلى حادث المنشية مثلا ومعاصروه لا يزالون أحياء).. فإن حاولنا "التدوين القصصي لمجرى شئون العالم كله أو بعضه" فإن ذلك سيكون تأريخا أكثر منه تاريخا.. و سيخضع لاعتبارات كثيرة تختلف باختلاف الكاتب ووجهة نظره والمعلومات المتاحة أمامه وقدر غسيل المخ وتزييف الوعي واصطناع الوثائق والشهادات الكاذبة وشهود الزور الذي تعرض له ..
أقول هذا رغم أن العبقرية الإسلامية قد أنجزت في تحقيق الحديث والسيرة عملا غير مسبوق ولا ملحوق في التاريخ.. وأنه لا توجد شخصية في التاريخ كله- ولن توجد- سجلت كل لحظة من حياتها كما حدث مع الرسول صلى الله عليه وسلم.. فبهذه العبقرية دخل الإسلام على التاريخ فزانه.. على العكس تماما مما حدث في الغرب عندما انتصرت المسيحية على الوثنية الرومانية فأصبح التاريخ تابعا للاهوت مسخرا له ففقد كل صفة علمية وكانت النتيجة النهائية لذلك هي حشو التاريخ بالأكاذيب ومحو التاريخ الصحيح لألف عام.. ولست أنا الذي يقول ذلك بل أنقل بالنص عن أستاذ تاريخ مسيحي(راجع عشرات كتب التاريخ التي تجمع على ذلك ومنها على سبيل المثال لا الحصر كتاب : علم التاريخ- هرنشو-ذاكرة الكتابة).
نعم.. حققت العبقرية الإسلامية قدرا مذهلا من التحقيق والتدقيق على عكس ما فعلته الكنيسة.. لكن المشكلة أكبر من هذا كله.. بل إنني أستطيع أن أقول بعد عناء نصف قرن أن الأمر لا يعود إلى حجم الجهد والمسئولية البشرية في الأساس بل إلى خصائص بثتها المشيئة الإلهية في سنن الكون ومنها التاريخ حيث تقضي تلك السنن بانعدام اليقين إلا في الله.. وحتى هذا اليقين فإنه غير مفروض على البشر.. بل إن تلك السنن التي قضت علينا بحمل الأمانة التي اخترناها تفضي إلى إمكانية التشكيك في كل شيء وذلك هو محور مأساة الوجود الإنساني.. وتلك هي محنة الاختيار.
كنت أقول لمن حولي دائما: كان يمكن للمشيئة أن تجعل نور الشمس يكتب في السماء كل صباح: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله.. ولكن قضت المشيئة أن تكون الحقيقة قريبة وعصية في آن وأن تحتاج إلى الجهد البشري وأن هذا الجهد هو الذي يمحص البشر ويقسمهم إلى ناج وهالك..
أظن أن المشيئة قضت أيضا بأن تجاهل العقل هو طريق الهلاك.. لكن الاعتماد عليه وحده هو أيضا طريق للهلاك.
يا رب.. كيف أجد طريقي إن لم تنر لي طريقي.. كيف أهتدي إذا لم تهدني..
كيف أنجو.. فحياة كل واحد منا ما هي إلا محاولة دائبة دائمة للنجاة حتى لو لم نفهم..
عندما يخطئ مؤرخ في كتابة التاريخ فربما يسقط في عين قومه أو جامعته.. لكن.. كيف بي إذا أخطأت في كتابة السيرة.. وكيف بي إذ أحاسب عليها يوم القيامة.. وكيف بي إذ أواجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخطأت في كتابة سيرته.
ثمة إجماع على ضرورة إعادة كتابة التاريخ الإسلامي.. وليس هناك خلاف على ذلك..
يقول العلامة محمد قطب في كتابه: "كيف نكتب التاريخ الإسلامي-دار الشروق- :
" أحسست منذ تلك الفترة البعيدة أنه لابد من إعادة كتابة التاريخ الإسلامي على نسق آخر غير ما يقدمه المستشرقون وتلاميذ المستشرقين, وظل إحساسي بهذه القضية يتزايد مع مرور الأيام ، كلما ازددت اطلاعا على ما يكتبه المؤرخون المحدثون في التاريخ الإسلامي ، وكذلك كلما برزت إلى الوجود صيحات مشبوهة، تنادي بضرورة إعادة كتابة التاريخ الإسلامي ، ولكن من زوايا أخرى، لا تقل تخريبا عما كتبه المستشرقون من قبل . ".." وكنت كلما مرت مناسبة من هذه المناسبات أزداد اقتناعا بضرورة إعادة كتابة التاريخ الإسلامي من منطلق إسلامي، وبروح إ سلامية، لا تتأثر بتلك التيارات المنحرفة والصيحات المشبوهة، التي تريد طمس معالم ذلك التاريخ، وطمس مقوماته الخاصة النابعة من كونه تاريخ الأمة الإسلامية بالذات، وإن ادعت تلك التيارات " الروح العلمية " أو " الموضوعية "آو " المنهجية " أو ما شابه ذلك من الشعارات!"
***
كتابة السيرة حلم يقظة ظل يراوحني في إطار الأحلام منذ وعيت.. ربما منذ الخامسة أو السادسة من عمري كما سيلي بيانه في صفحات قادمة.. وكنت كلما تقدمت في العمر تمنيت أن أبني صرحا هائلا شامخا مثل:" في ظلال القرآن" ليقرأه الناس فيعوض لي بعد موتي الحسنات التي لم أستطع تحصيلها قبل موتي.
كان مجرد حلم يقظة طال فيه الأمل وقصر عنه العمل..
لكن الحلم طرق بابي بقوة مقتحمة مؤلمة عندما فوجئت بقارئ لا أعرفه يزورني.. ولقد نسيت الآن كل شيء عنه.. عندما دخل فوجئت به يهجم علىّ فتراجعت في دهشة غير مستبعد أنه قد يكون دسيسة أمن ويريد بي سوءا.. لكنني فوجئت بالرجل يتهاوى وينحني لتقبيل قدميّ.. نهرته بشدة وأنا من التأثر والغضب والحزن والخجل في غاية .. ورحت أدفعه وأمنعه وأصرخ فيه غاضبا: يا أخي هذا حرام..
اندفع الرجل كطوفان:
- كفّ عما تفعل.. توقف.. أنت الآن تنافس نفسك.. وأنت مهزوم في هذه المنافسة.. لأنك لن تكتب أبدا كما كتبت قبل ذلك.. ولن تبدي من الشجاعة مثلما أبديت.. قارن أي مقالة من مقالاتك بـ:"من يبايعني على الموت" أو لا ترشح نفسك مرة أخرى" أو " من مواطن مصري .." أو.. أو..
وراح الرجل يواصل حديثه في تدفق لا أستطيع أن أوقفه ويكيل لي مديحا يخجلني وأنا لا أعرف كيف أكبح جماحه ولا أفهم ماذا يريد.
هتفت فيه:
-ماذا تريدني أن أفعل إذن؟
فأجاب..
- كفّ عن الكتابة في السياسة وابدأ الكتابة في السيرة.
وأخذ الرجل يعدد نعم الله عليّ عندما منحني-على حد قوله- القدرة على توصيل المعنى..ويستحثني أن أوظف هذا في كتابة السيرة.
جثم على قلبي حمل ثقيل.. أصابني الرعب..
لحظة احتمال تحول الحلم إلى حقيقة كانت مروعة..
قلت للرجل أنني خائف.. وأنني لن أقدم على ذلك إلا بإشارة واضحة صريحة لا تحتمل لبسا..
لن أجرؤ على الإقدام إلا بعد أن أحصل على إذنٍ بأن أكتب..
رويت ما جرى لبعض الأصدقاء وعلى رأسهم الأستاذ حسين عاشور الذي أيد الفكرة بقوة ولم يكف أبدا عن تشجيعي.. وفي مرة من المرات كان يستحثني .. وكان شرط الإذن الذي وضعته خير مهرب.. وكنت أخبره ببعض الرؤى لكنها لم تكن قاطعة وكانت تحتمل أكثر من تفسير.. كان منها على سبيل المثال أنني رأيت نفسي مارا على مسجد السيدة زينب وقد أوشك وقت الصلاة على الانقضاء فدخلت مسرعا-لا أقصد إلا الصلاة- .. وبدأت أصلى وحدي كي أدرك الوقت.. لكنني بعد قليل لاحظت أن خلقا كثيرا لا يحصى ولا يعد يصلون خلفي.. فملأني الرعب لأني أؤم كل هؤلاء ولست جديرا بذلك..
لم يكن هذا الدليل يكفي.. كنت أريد علامة لا تحتمل تفسيرا آخر.. ولكن بمجرد أن انتهت المكالمة فوجئت بصديقي الشيخ أحمد سليمان الدبشة يدخل عليّ حاملا موسوعة ضخمة في السيرة النبوية ويهديها إليّ.. وأظنه لم يكن يعلم شيئا..
سألت نفسي في دهشة:
- هل هذا هو الإذن؟.. هل هذه هي الإشارة..؟
لكنني سرعان ما قلت لنفسي: قد يحمل الأمر تفسيرا آخر..
***
تكاثر إلحاح الأصدقاء عليّ.. وكنت أحس بالخطر الشديد وأدافع عن نفسي باستماتة.. ولجأت إلى صديق عزيز من أساتذة الأزهر العظام.. وهو الأستاذ الدكتور محمد جبريل أستاذ التفسير.. كنا في رحاب ليلة القدر من رمضان الماضي ..حيث تصفو النفوس وترق القلوب حتى نكاد نصافح الملائكة.. قلت له أنني ألجأ إليه ليس كصديق وإنما كعالم وقاض ومفت ومسئول أمام الله.. عرضت عليه الأمر كله معددا له أوجه قصوري وعدم أهليتي لهذه المهمة.. كنت أترافع ضد نفسي مرافعة قوية تأمل في الحصول على العفو وعدم التكليف بهذه المهمة.. قلت له أن دراستي وعلمي لا يؤهلاني لذلك.. وختمت مرافعتي بتحذير ظننته بليغا وحاسما عندما أخبرته عن أحد أساتذتنا الكبار في قصر العيني.. كان يقول لنا أن الله سيحاسبه يوم القيامة عن أخطائه وعن الأخطاء التي ارتكبها تلامذته الذين أجازهم دون حق.. قلت له أنه إذا حكم عليّ بأن أكتب عن السيرة سيكون مسئولا أمام الله عن قصوري وخطئي..
طال صمت الأستاذ الجليل بعد مرافعتي القوية فأيقنت بالنجاة.. كنت كمن استدعي للقيام بعملية استشهادية فاكتشف أنه ليس لديه الشجاعة الكافية للقيام بها لكنه غير قادر على الاعتراف بذلك فراح يأمل أن يستبعده القائد..أو كأولئك الذين يتمنون السقوط في الكشف الطبي للإعفاء من الخدمة العسكرية..
فوجئت بالدكتور محمد جبريل يقطع صمته مهاجما:
- ما أشد طمعك.. ماذا تريد من الإشارات أكثر مما جاءك وأكثر مما رويته لي.. بعضها فقط كان يكفيك.. الكتابة الآن واجب عليك.. سوف تأثم إن لم تكتب..
وطال حديث الأستاذ الجليل.. مؤكدا أن هذا الرأي وهذه الثقة ليست مقصورة عليه بل تحدث بها عديد من زملائه.. أساتذة الأزهر.. ولو كنت في موقف غير الموقف لأسعدني كثيرا ثناؤه وإطراؤه.. لكنني لم أتلق حديثه تلقي المقر بما يقول.. بل تلقي من فشل في الدفاع عن نفسه فلم يعد ثمة مفر من التورط في أمر هو ليس له بأهل.. قلت لنفسي أن العالم الجليل يظن بي خيرا كثيرا لا أملك بعضه.. وجاشت داخلي مشاعر الريبة والتوجس: هل خدعت العالم الجليل.. هل خدعت الناس جميعا فأوهمتهم بنقاء لا أملكه وبعلم لا أعلمه.. هل يحاسبني الله على الفارق بين ظن الناس بي وبين حقيقتي؟!
أسقط في يدي وامتلأت عيناي بالدموع.. وامتلأت نفسي بالخشوع..
وامتلأ عقلي بالخضوع..
كنت قد آليت على نفسي أن يكون حكم الأستاذ الدكتور محمد جبريل حكما نهائيا بلا نقض أو مراجعة.. وأنه إشارة القدر الأخيرة لي..
وهاهو ذا
فهل يعني حكمه حقا – أم أنني أوهم نفسي- استجابة الله لدعوتي التي لم أكف عن الدعاء بها طول عمري فلما آن أوان الاستجابة ملأني الروع..
كان الدعاء الذي لم أكف أبدا عنه أن يختم الله حياتي بعمل لآخرتي كتفسير القرآن أو كتابة السيرة..
هي خاتمة الحياة إذن.. قد يستغرق الأمر أياما أو أعواما.. لكنها خاتمة الحياة.. ولست من الموت أفزع.. ولكن ما يفزعني أنه الامتحان الأخير الذي تختتم الحياة الدنيا به لتبدأ الحياة الآخرة.. هو الامتحان الأخير دون فرصة لتعويض الفشل فيه فإن لم يوفقني الله–بسبب نفسي- فقد هلكت..
أخاف ربي.. أخاف عجزي.. أخاف أن يكون الله قد وضعني في امتحان هو يعلم أنني سأرسب فيه كي يدخلني النار وليس عندي حجة..
حوصرت بعد حديث الأستاذ الدكتور محمد جبريل.. قبل أن أكلمه كانت الخطورة في أن أكتب.. الآن.. أصبحت الخطورة أيضا في ألا أكتب..!!.
***
ثمة تفصيل أجد من الضروري أن أضيفه هنا.. لقد قاومت نفسي كثيرا مؤملا أن القارئ الذي تعود على القراءة لي سيدركه دون أي محاولة للشرح مني.. لكنني فلت لنفسي إن القارئ غير المعتاد قد يفهم العكس.. وقد يتصور أنني أورد ضغط الأصدقاء علىّ لكي أكتب في السيرة لكي أدلل على أهميتي.. لم تعرفني إذن أيها القارئ.. الأمر على العكس تماما تماما..إنما أكتبه كمبرر واعتذار لمن قد يسأل ذات يوم لماذا تجرأت.. لماذا تجاوزت قدري وتجرأت .. إنني أتسول الصفح من هذا القارئ.. وأقول له معتذرا أنني دُفِعتُ ما اندفعت.. وأنه لم يكن لي في الأمر حيلة.. كما أنني أتصور أنني سأسيء .. وأن الله سوف يحاسبني يوم القيامة على جرأتي وإساءتي.. فأردت أن أستبق بالاعتذار لعل في أولئك الصالحين-أحسبهم كذلك- الذين ظنوا بي خيرا ليس فيّ شفاعة عند الله.
***
ثمة تفصيل آخر..إن الأستاذ حسين عاشور يمثل بالنسبة لنا في المختار معنى كبيرا هائلا.. ليس لمجرد سابقة جهاده بل لعلمه وصلاحه- ولا أزكيه على الله.
لقد واجهني بأعذب وأقسى عتاب يمكن أن يتصوره كاتب حتى لكأنه ذبحني.. فعلى الرغم من كل ما مضى ملأني الروع عندما حان أوان إرسال المقال إلى المجلة لينشر.. أعدت قراءة ما كتبت فخيل إلىّ أنني أسوأ كاتب.. فزعت.. نويت الفرار.. اتصلت معتذرا.. فإذا به يرسل إلىّ أعذب وأرق وأقسى رسالة تلقيتها في حياتي:
- لا يأس.. خذ وقتك تماما.. لن يستعجلك أحد.. سننتظرك .. ليس مهما أن يتأخر طبع المجلة وطرحها في الأسواق لكن المهم أن تكتب.. وسننتظرك..
يا لنعومة حد السيف!
تعلموا يا رؤساء التحرير من أستاذكم كيف يجب أن تتعاملوا مع الكتاب بل وأن تستخرجوا منهم أقصى طاقاتهم.. لقد أدرك الرجل الجليل شدة خوفي فواجهه بفرط أدبه وشدة حيائي..
لكن..
يا لائميّ.. هل كنت أستطيع بعد ذلك ألا أكتب؟..
***
أني ليَ قلما لا يكتب إلا صدقا وورقا لا يقبل إلا حقا..
وكيف بي إذا مال الميزان في يدي فأخطأت في حق سيد البشر وأنا أكتب سيرته..
في أي مجرى أجري وفي أي مسار أسير..
أي الطرق يقودني إلى الهلاك وأيها يحملني إلى مرافئ الأمان؟!
هل أخوض فيما مضى؟
أم أن عليّ أن أترك ذلك كله لأواجه مطاعن المستشرقين والعلمانيين..
فما أنا إزاء العلامة محمد قطب وعشرات وعشرات ومئات..
في تناولي لمناهج كتابة التاريخ والسيرة لم ألمس إلا قشورا عن كيفية تناول الحقائق التاريخية وتمييز الصادق من الكاذب فيها ولم أتطرق إلى تفسيرها ولم أقصد التصدي للمشكلة بل أردت فقط أن أثبت صعوبة الأمر وتعدد المناهج.. والتعدد يعني دائما أنه لا يوجد منها منهج مثالي يجب سواه.
فأي منهج إذن أنهج وفي أي مسلك من المسالك أسير آمنا الضياع..؟!..
من هنا كان خوفي..
من هنا كان رعبي..
ما لا يعرفه شيوخي وأساتذتي وإخوتي وتلاميذي الذين لم يكفوا عن الضغط عليّ للكتابة في السيرة طيلة الأعوام الماضية أنني كنت أستمهلهم على أمل ورجاء أن يسبق الموت فتقبض روحي قبل أن ألج البحر اللجي..
أأخوضه لأغرق؟!..
وأنا الذي لا آمن أن أغرق هل لي أن أنقذ الآخرين من الغرق..
إي وربي.. تلكأت على أمل أن ينقذني الموت..
***
آه لو تظل الحقيقة دانية واليقين مطلقا كما كانا في الطفولة..
لقد بدأت أمنيتي بأن أكتب عن الإسلام منذ كنت في السادسة من عمري.. وربما قبل ذلك!.
في ذلك العمر المبكر كان للحقيقة وجه واحد لا وجه غيره.. وكان هو الوجه الذي أراه أنا والذي أعجب كيف لا يراه الآخرون كما أراه.. كانت حماستي هائلة .. وكنت على يقين مطلق أنه عندما تتاح لي الفرصة لعرض القرآن الكريم والسيرة النبوية على العالمين فسوف يدخلون في الإسلام جميعا دون استثناء.. فكيف يرفضون عندما أنجح في تجسيد الجنة بيد وتجسيد النار باليد الأخرى .. كان يقيني مطلقا أن الأمر كله لا يعدو سوء فهم ما أن يزال حتى يكتشف الآخرون أخطاءهم ليدخلوا في دين الله أفواجا وتنتهي الصراعات والحروب والمحن فيحب كل إنسان لأخيه ما يحب لنفسه بل ويؤثره على نفسه ولو كان به خصاصة فلا يجوع جائع بإفراط متخم ولا يموت مريض لأنه لا يجد الدواء ولا يعذب إنسان إنسانا ولا يكذبون ولا يسرقون.
كانت العاطفة جياشة.. وفي ذلك الوقت لم أكن أعرف كم كنت جاهلا وساذجا.. بل كنت أحسب أن ما لديّ من اليقين لو وزّع على أهل الأرض لوسعهم .. وأظنه كان!..
***
نشأت في بيئة صوفية.. كانت تثير فيّ من الاستنكار أكثر مما تثير من التأييد.. ثم انتقلت إلى ثقافة أخرى تعلي التفكير المادي وتبطن الكفر.. واقتربت من كل الاتجاهات الفكرية في المجتمع فكانت خطوطنا تتقاطع أحيانا وتتوازى أحيانا لكنها لم تتحد أبدا.. ولقد جعلني هذا أقرب لتلمس الأعذار مني للإدانة.. وسوف أتناول في الجزء الثاني من هذا المقال مؤثرات الطفولة الباكرة والشباب التي تظهر كيف تم التحول في حياتي بعد التجول في مختلف الاتجاهات الفكرية والتي جعلتني أحاول استيعاب المتناقضات ولتجعل مشروعي وهدفي هو توحيد الأمة لا تفريقها.. وتصويبها لا تمزيقها.. و سيظل هدفي أثناء كتابة السيرة.. لا يعني ذلك أنني سألوي عنق الحقيقة وأفسر التاريخ تفسيرا تلفيقيا كي أصل إلى هدفي.. لا.. بل سأحاول أن أتمثل ماذا كان سيفعل الرسول لو كان بيننا.. سأحاول.. مرعوبا سأحاول.
***
بعد انهيار عالم السذاجات الطفولي بداية من مشروع تفسير القرآن وأنا دون السادسة إلى مغامرة محاولة كشف لغز الموت ورحلتي إلى المقابر وأنا في السابعة ثم اندفاعي لالتهام كل كتب المكتبة في المدرسة الابتدائية ثم حصولي –بعد اختبار- على تصريح باستعارة أي عدد من الكتب في المدرسة الإعدادية والثانوية.. اندفعت أعب من قراءة الكتب عبا.. كانت الصوفية محبطة لآمالي فاكتفيت بموقف الإنكار القلبي.. وكان النظام السياسي الباطش قد نجح في تشويه حركة الإخوان المسلمين مدعوما بجهود بعض الصوفية وكان ذلك محاطا بالروايات عما يتعرضون له من تعذيب بشع نال من تقديرهم ولم يبق من مظاهر تأييدهم سوى التعاطف والإشفاق وخيالات إعجاب مكتوم بمن حكم عليهم بالإعدام دون أن يتراجعوا.. لعقدين من الزمن كنت أقرأ كتابين أو ثلاثة كتب كل يوم.. وكان الأدب ملجأ وعزاء.. ولم يكن أي شك من الشكوك ولا أي شبهة من الشبهات تحيط به.. وقد ازداد لجوئي إليه بعد أن خاب أملي في الفلسفة أيضا.. قرأت معظم الأدب المصري المعاصر وحفظت بعض دواوين الشعر.. قرأت في الآداب القديمة.. هزني كتاب " الموتى" من الأعماق لسببين: قيمة الكتاب ذاته ثم ما نثره العلمانيون حوله من سموم.. لقد كان مدهشا لي تشابه معانيه بل وبعض ألفاظه مع بعض آيات القرآن وتشابه بعض أخباره مع التوراة والإنجيل.. اعتبر العلمانيون الأشرار ذلك دليلا على أن الكتاب المقدس- القرآن- والإنجيل والتوراة مستقاة من تراث الفراعنة.. ارتعد قلبي للمرة الأولى وهو يستدعي قواه لمقاومة الشك.. سوف أعلم بعد ذلك أنهم قاتلهم الله قد بثوا الشك فيما ينبغي أن يفيض باليقين.. وأن ذلك التشابه لا يبعث على الشك بل يدفع إلى اليقين لأن الواضح أن كتاب الموتى نفسه مستقى من كتب أقدم منه والغالب أنها كتب مقدسة أو مستقاة من كتب مقدسة .. ولأن الله واحد أحد فإن الطبيعي وجود تشابه كثير في كتبه التي لم تحرف أو على الأقل فيما لم يحرف منها..إن التشابه بين الذرة والمجموعة الشمسية لا تدل على أن أحدهما منقول من الآخر بل تدل على أن خالقهما واحد.
كنت قد لجأت –بالإضافة إلى الأدب- إلى الفلسفة لجوء المحموم الباحث عما ينقذ حياته ووجوده.. لم يكن الأمر لي ترفا عقليا أو تزينا بالمعارف كما يتزينّ النساء بالذهب.. كان أمر حياة أو موت.. إن لم أصل إلى اليقين سأموت.. إن لم أجد مبررا لحياتي أموت.. إن لم أفهم وأقتنع أموت..ألقيت بنفسي في اللجة.. بعد انبهار البدايات بدأ الإحباط واليأس والدهشة لتهافت الفلسفة وعجزها.. انطلقت من أفلاطون إلى سقراط-هل كان نبيا؟- إلى أرسطو معلم الإسكندر الأكبر.. أخذت أعب من الميتافيزيقا و كيفية إثباتهم لوجود الله وإنكارهم له.. كنت كمن يعب ماء البحر.. كلما قرأت ازددت عطشا..انزلقت إلى أبيقور ثم اندفعت إلى فرنسيس بيكون ولوثر وكالفن وسبينوزا إلى فولتير إلى كانط إلى هيجل وشوبنهور إلى سبنسر إلى دارون إلى نيتشه إلى برجسون إلى ديكارت إلى ماركس وإنجلز إلى ماكس موللر إلى جون لوك إلى كيركجارد إلى ياسبرز إلى دريدا وسوسير ورولان بارت وجاك كوهين وياكوبسون إلى ظاهرية هوسيرل وتأويلية هايدجر وجادامر إلى برتراند راسل إلى سارتر إلى كامي إلى وليم جيمس إلى تشومسكي إلى ميشيل فوكوه .. إلى.. إلى.. إلى
كان ديكارت قد نجح في تفجير القنبلة في قلبي وعقلي..ربما لم يدفعني إلى الشك تماما.. ولكنه نجح في إقناعي أن عليّ أن أطرح كل اقتناعاتي السابقة التي لم أكن مسئولا عنها لأبدأ من جديد.. من نقطة الصفر.. لكنني قاومت الغواية بشراسة.. كانت المصاحف قد اختفت من على أرفف المكتبات ليعرض مكانها مجلدات صغيرة بنفس الحجم واللون الأحمر لبعض المصاحف..كانت كتب ماركس ولينين.. شعرت بالإهانة.. أتريدون أن أترك الله لأعبد ماركس.. وأترك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأتبع لينين.. على الجانب الآخر كان سارتر وكامي وفرويد وسان سيمون.. ورفضتهم ذات الرفض..
في ذلك الوقت كنت قد تعرفت إلى زميل تمكن الشك منه حتى قاده-والعياذ بالله - إلى الإلحاد.. كان إلحاده مستفزا لي ودفعني إلى مزيد من التشبث بالإيمان.. تشبث من بدأ يحس بالخطر وتناوشته هواجس احتمالات الغرق.. كنا نقضي في الحوار ليالي خلف ليال. كان موقفنا السياسي واحدا في إدانة بطش وديكتاتورية الناصرية والإعجاب بمحمد حسنين هيكل في نفس الوقت(!!).. وكنت أدين بأقصى ما أستطيع حرب اليمن رغم أنني لم أعرف إلا بعد أربعين عاما أن ضحاياها كانوا أربعة وعشرين ألف قتيل من الجنود والضباط المصريين ومائة ألف شهيد من أبناء اليمن وأن جيشنا الباسل كان يقصفهم كما فعلت بنا إسرائيل في مدن القناة بعد ذلك. كنا نتوقع كارثة تصيب الأمة.. كان إحساسا مبهظا غامضا بلا تفاصيل.. من ناحيته كان استقراء عقليا.. ومن ناحيتي كان قصاصا لازما من جرائم التعذيب في السجون وجرائمنا في اليمن.
كان لصديقي ذاك علاقات حميمة بعيون الأدب والشعر والفكر آنذاك.. وكان مبهورا ببعضهم ومذهولا من وضاعة بعضهم الآخر.. ثم بدأت الأزمة في مايو67.. كنت أقرض الشعر فكتبت عن الهزيمة المتوقعة.. لم يرق إلى خيالي أبدا حجم الجهل والاستهتار والخيانة التي أدت إلى الهزيمة. وكان ما فعلناه في اليمن-أيا كان التفسير- سببا جوهريا للكارثة..
كانت هزيمة 67 قارعة لم تعدلها في حياتي قارعة.. وكان ألمها ولم يزل لم يعدله ألم.. لم يكن انهيار الجيش كتعبير عن الانهيار الحضاري والمادي والعلمي هو الكارثة.. بل كان انهيار الخير والجمال وما ظننت أنه الحق والعقل والمنطق.. كان انهيار الروح.. لقد فصلت ذلك في كتابي "اغتيال أمة-مدبولي 87" لكن العجيب أنني إزاء القرع الإعلامي وغسيل المخ وتزييف الوعي استجبت استجابة عكسية..صباح 9 يونيو كنت أرى وجوب إعدام عبد الناصر.. لكنني بعد التنحي أشفقت عليه.. لم أكن ممن خرجوا في مظاهرات 9 و 10 يونيو.. لكنني كنت ممن تعاطفوا مع البطل الجريح.. لم يكن يقيني قد اكتمل بأنه مجرم.. وأنه أكثر من أساء إلى الإسلام في القرن العشرين بعد المجرم كمال أتاتورك.
سوف أكتشف بعد أعوام طويلة سر الحكمة الإلهية في أخطاء التحولات في حياتي.. لكن ذلك يأتي في المقال القادم..
في مظاهرات 68 وانتخابات اتحاد الطلاب قضيت ليلة في وزارة الداخلية انتهت بمشادة حادة مع لواء شرطة عندما صرخ في وجهي : أنتم طلاب مشاغبون وسوف ألقيك وراء الشمس وسوف تعذب عذابا لم يخطر لك على بال.. فلم أتمالك نفسي وصرخت فيه: أنتم وكل اللواءات دمرتم الوطن ولم تخسروا شيئا لأن الوطن لا يهمكم..أنتم السبب في هزيمة 67 التي انكسر فيها الوطن كما أنكم مسئولون عن كسر أنف الأمة وسلب روح الناس.. أنت لا تقل سوءا وخيانة عن ذلك اللواء الذي هرب من سيناء.. وأنقذني من عواقب الصدام دخول نائب الوزير.. اصطحبني الرجل إلى مكتبه قائلا أنني أذكره بشبابه عندما كان ما يزال نظيفا.. وكم كانت الصدمة أليمة عندما أخبرني أن الوزير مثله ليس نظيفا وكذلك رئيس الوزراء.. ثم هامسا: وجمال عبد الناصر أيضا ليس نظيفا.. احمد الله أنني دخلت بمحض الصدفة الآن-كنا قبيل الفجر- عندي اجتماع هام في الصباح وخشيت أن أتأخر فحضرت لأخذ بعض الأوراق.. لو لم أحضر كان يمكن أن تموت هذه الليلة أو أن تظل طول عمرك ضيفا على سجوننا.. اخرج الآن من أجل أمك وأبيك.. من المؤكد أنهما راضيان عنك.. وهذا سبب نجاتك.. سوف أرسل معك من يصطحبك إلى الباب وإلا اصطادوك..
كنا نموت من الألم والقهر.. أخذنا ندور على دور الصحف.. تعرفت على يوسف إدريس ولويس عوض.. كتب الأول مقالا طويلا عني وبشرني الثاني بأنني سأكون خليفة نجيب محفوظ.. قلت له أن الوطن يغرق فلا نجاة لأحد.. عزفت تماما عن المواصلة.. وعرفنا المزيد من كبار الكتاب والمفكرين.. وفزعنا وجزعنا وتقززنا.. فتلك الهالات المبهرة من بعيد كانت مسوخا بشرية.. كان انتشار الكفر والشذوذ والسكر سمة غالبة..لم يكن للدين وجود.. وكان ذلك مؤلما بالنسبة لي.. ولم يكن للوطن أي قيمة.. سألناهم أنا وصديقي: إذن كيف تكتبون مقالاتكم التي تتأجج نارا عن القضية الوطنية.. فأجابونا : تماما كما يمارس الطبيب عمله دون تعاطف..ألا يكون المريض على حافة الموت أمام الطبيب الكبير فلا يفعل هذا إلا ابتزازه حتى يموت.. الطبيب الجيد هو الذي يبتز دون أن يضر.. والخائن هو من يدفع بمريضه إلى متاهات مؤلمة كي يحصل منه على أكبر قدر من النقود.. وفي كل الحالات فإن ذلك الطبيب لا يتعاطف مع مريضه ولا يشفق عليه ولا يحزن لموته..
واصلوا بلا مبالاة : الكتابة حرفتنا كما أن الطب حرفتكم.. لا تصدقوا شيئا مما نكتب..
نكئ الجرح المفغور..
كانت صدمة النكسة ما تزال تنزف.. وصدمة المظاهرات وما تكشف من فضائح المخابرات.. واكتشفت أن صديقي بدأ يفعل كما يفعلون فغاضبته فخاصمني بعد مشاجرة علت فيها أصواتنا.. قلت له قبل أن يقاطعني أن المبرر الوحيد له كان أنه لم يكفر بالله ليعبد الشهوات.. وأن ما يبدو أنه كفر لا يبرره ولا يغفره إلا كونه شكا وبحثا مضنيا داميا عن الحقيقة الكبرى ينطبق عليه مقولة الإمام أبو حامد الغزالي:"الشك قنطرة اليقين" ومقولة دستويفسكي:"أقرب الدرجات إلى الإيمان الصادق: الإلحاد الصادق.." ..
كانت فترة القطيعة مؤلمة جدا على المستوى العاطفي والفكري أيضا.. كان بإلحاده يقوي إيماني.. بعد شهور جاءني مصالحا.. كان مستكينا مستسلما حزينا.. قال لي أنه فقد الدين لكن الفلسفة قد عجزت عن شفائه.. وبانكسار الوطن لم يعد هناك ما يسعى لأجله.. كان يائسا جدا.. رحت أبث فيه الأمل قائلا له أنني لا أشك لحظة في أنه سيصل بعقله إلى الله.. ثم أن مستوى كتاباته في القصة والمسرح والفكر تضارع كبار الكتاب بل تزيد عليها..وأن هذا يضمن له مستقبلا باهرا ومجدا وشهرة وثروة.. ولم أكن مجاملا.. مضى صامتا شاردا.. ذهب إلى مسكنه خلف السيدة زينب.. أوقد شمعة.. وابتلع مائعة قرص منوم.. وظل يكتب حتى سقط فاقد الوعي.. ثم مات.. كتب عني في رسالة موته.. لكن الأهم أنه عبر بجلاء شديد عن إيمانه بالله وعن عذابه لأنه ضل الطريق إليه.." طرقت الأبواب كثيرا فما حيلتي في عدم الوصول إلى أبوابك".. وأنه يغادر الحياة لا يدركه أحد ولا يأبه لشيء لكنه يبكي من أجل أمه فقط: "هل تعلمين أن ابنك يموت الآن"؟.
كان ألمي لا يوصف.. شعرت بجزء من المسئولية عن موته.. لو استطعت أن أدعمه بالإيمان أكثر مما فعلت لما مات..( هل لذلك دخل في إحساس لم يفتر أبدا بمسئوليتي تجاه شباب الأمة وحمايتهم من الغزو الفكري.. بل إن مشروع كتابتي للسيرة موجه أساسا إلى شبابنا الضائع التعيس الذي أفرغوا دنياه من الدين فأصبح لا يصلح للدنيا ولا للآخرة).
بعد الهزيمة كان رد فعلي غريبا إذ لم أكتشف فساد النظام وتعفن جذوره وأنه لا علاج له إلا بالاستئصال واتخذت الموقف الخطأ فتعاطفت مع عبد الناصر.. خطأ آخر سوف أكتشف حكمة الله فيه بعد أعوام طويلة..
بعد حادث انتحار صاحبي كان رد فعلي أيضا غريبا.. كان من المتوقع مثلا أن أنهار حزنا.. أو أن أنتقل إلى الإلحاد بحكم الصدمة والتعاطف.. أو حتى أن أعترض- حاشا لله- على قضاء الله.. ما حدث كان على عكس ذلك.. ازددت اقترابا.. وكان الألم داخل جنبي ألما وحشيا.. لم يكن ألم الفقد.. بل كان ألم البحث عن اليقين.. كنت أدور حول النيل في المستطيل المحدد بكوبري الجامعة والقصر العيني وكوبري قصر النيل.. وكنت أدعو الله وأتوسل إليه.. أنت تعلم كم أحبك.. ليس في حياتي إلا أنت.. كل الوجود هباء.. وليس ألا أنت.. ليس لي في هذه الدنيا مطمع ولا شهوة ولا أمل ولا سلطة ولا مجد ولا مال ولا حب.. ليس إلا أنت.. أنت مبتغي.. سواء أطعت أم عصيت فليس لي إلا أنت.. أنا كالإليكترون الذي يدور حول النواة.. اتجاه دورانه في نصف الدائرة الأعلى عكس الاتجاه في نصفها الأسفل لكنه في كل الحالات لا يكف عن الدوران حول نفس المحور..لا يبتعد إلا ليقترب.. كنت لا أكف عن الحديث إليه..أتضرع ذليلا راجيا.. امنحني علامة تمنحني اليقين.. ساعتها لن أنكص عن شيء في الوجود أفعله دفاعا عن دينك وشرعك.. دعاك الأنبياء أن تمنحهم اليقين فسألت وأنت بالجواب أعلم أولم تؤمن قالوا بلى ففاض رضوانك عليهم.. سألوك أن تعطيهم البرهان فأعطيتهم.. وأنا عبدك الذليل الضعيف إلى ذلك أحوج.. أتقرب إليك فلا تدعني.. تجاوز عن أخطائي.. تجاوز عن أنني لا أتقرب إليك بالنوافل بل بجحيم النيران المستعرة في قلبي.. أتقرب شبرا فتقرب باعا..القرب منك لكل مصيبة عزاء والبعد عنك حتى لو ملكت الدنيا خواء وغثاء.. فأغثني.. لا تتركني لنفسي.. اصطفيني عبدا ربانيا أري بنورك..وأهيم في حلاوة ذكرك.. أنت القادر ليس لقدرتك حدود.. وأنت خالق النواميس والسنن وأنت القادر على إبطالها فجعلت النار لا تحرق وبطن الحوت لا تميت.. فاخرقها من أجل عبد لا يرى في الوجود سواك.. اخرقها من أجلي برهة واحدة واقبضني بعدها.. أنت تعلم أنني لم أشك في وجودك أبدا.. أستطيع الشك في وجودي لكنني أبدا لم أشك فيك.. لكنني أريد أن أعرف كيف أعبدك.. أعطني برهانا.. علامة.. يقينا ولو حتى بحلم.. إنني مسلم لأن أبويّ كذلك.. فكيف أمسك باليقين بهذا كما أمسكت باليقين بك..أريد أن أكون كلي لك.. لكنني أخاف أن أضلّ أو أزلّ.. رب أرني آية.. أعطني الوسيلة.. أعطني شيئا لا أضل بعده أبدا ولا أزيغ بعده أبدا..
الحقيقة أنني كنت أتحدث إلى الله ونصفي يحذر نصفي.. إياك أن تخلط ما بين الأمرين فتفقد عقلك.. كان النصف الواقعي الآخذ بالمنطق يرد علىّ: من أنت حتى يخرق الله نواميسه من أجلك.. وكان النصف السابح في الغيب يرد قائلا: إنما سألته عطاء بقدره لا بقدري..لم أكن أكف عن التفكير أبدا.. هانت الدنيا وما فيها.. رفضت عرضا كان حتى شهور قليلة مضت حلم عمري.. أن أعمل كاتبا في صحيفة الجمهورية.. . لم أكن أريد إلا وجهه الذي تشرق به الظلمات وتنصلح الدنيا والآخرة.. كما أوقفت مشروعاتي لتأليف الكتب ونشرها.. قلت لنفسي إنني لست باحثا عن شيء من حطام هذه الدنيا.. وإنني لن أكتب إلا إن كنت واثقا من أنني أقدم بما أكتب قيمة أواجه بها تزييف وعي الناس..لا أنكر أنني كنت أدعو الله بدعائي ذاك وأنا موقن بالإجابة.. ولم أكن سأصاب بأي دهشة لو وجدت ملكا من السماء تشكل أمامي بشرا سويا يخاطبني.. كنت أنتظر المعجزة غير منكر لها.. ولم تكن مشاعري حارة فقط بل كانت تغلي وتفور وتمور.. ولكن المعجزة لم تحدث.. بعد عام أو أكثر من الرحلة الليلية حول النيل فعلت ما أندم عليه.. ذنبا أرجو أن يغفره الله لي.. توقفت عن الصلاة.. كنت ألزم نفسي بمنتهى الحسم والحزم ألا أخالف أو أقصر في فرض من الفروض.. كنت أعلم أنني في مرحلة انتقال.. وكنت أخشى أن أكون كالآخرين.. أتنكر للدين كي أبطل كبحه للغرائز والشهوات.. ولكن توقفي عن الصلاة لم يكن توقف كفر وجحود.. كان توقف استغاثة.. كنت كالطفل الذي طلب شيئا من أمه فلما لم تعطه له أضرب عن الطعام.. فهو لا يضرب لأنه لا يريد بل لأنه يريد أكثر.. إنه يريد أن ينبه أمه.. أن يقول لها كم هو حزين وبائس لأنها لم تستجب لما طلب.. وأن الموت أهون عليه من عدم استحابتها.. إن إعراضه عن الطعام ليس تمردا وإنما استغاثة من الأعماق ومحاولة أخرى لإقناعها بالاستجابة.. استمر ذلك ما يقارب العام.. ولم تحدث المعجزة أيضا.. قلت لنفسي إنني أومن بالمعجزة كطريق مختصر للوصول.. فإذا كانت لم تحدث فإن عليّ السير في الطريق الطويل.. إن الأمر يشبه العلاقة بين القنبلة النووية (المعجزة) والمفاعل النووي(الطريق الطويل).. القنبلة تعطي كما هائلا من الطاقة في معشار معشار ثانية أما المفاعل فيعطي نفس الطاقة لكن عبر عشرات الأعوام.. قلت لنفسي إن النضج العقلي يكتمل في الأربعين.. وإن علىّ أن أنتظر بلوغها لأقرر ساعتها أكتب أم لا أكتب.. وحتى يحين ذلك فإن عليّ أن أقرأ ما استطعت لكي أفهم.. قرأت في مختلف فروع المعرفة مركزا على علوم الفضاء والجيولوجيا .. والرياضة والفلسفة والتوحيد والعقيدة والتصوف والتاريخ والسيرة والأدب.. كنت في الموقف الذي عبر عنه العلامة محمود شاكر: لم أجد لنفسي خلاصاً إلا أن أرفض متخوفا حذرا شيئا فشيئا أكثر المناهج الأدبية والسياسية والاجتماعية والدينية التي كانت يومئذ تطغى كالسيل الجارف يهدم السدود ، ويقوض كل قائم في نفسي ، وفى طريقي ، ويومئذ طويت كل نفسي على عزيمة ماضية أن أبدأ وحيداً متفردا رحلة طويلة جدا ، وبعيدة جدا ، وشاقة ومثيرة جدا..
كان أمامي سبعة عشر عاما حتى أبلغ الأربعين.. انتويت ألا أتخذ فيها موقفا نهائيا حتى أستوعب ما أقرأ..
***
في ذلك الوقت البعيد.. وعندما كنت أتلظى في جحيم الألم لم أكن أعلم أن ما أطلبه من يقين موجود بين يدي
نعم..
كان موجودا في كتاب الله..
كان موجودا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم..
كان موجودا في ظلال السيرة النبوية!
د محمد عباس :
mohamadab47@yahoo.com
mohamadab@hotmail.com
البقية في العدد القادم إن شاء الله
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق