26 ديسمبر 2009

تحويل "الفكر الصحيح" إلى عمل صريح ـ د. محمد عمارة

 إن مخالفة الفعل للقول وتناقض الممارسات مع الأفكار هو نوع صريح للخيانة للمقولات والأفكار وهذه الخيانة تتصاعد مخاطرها وتتزايد أوزارها عندما تكون خيانة للوحي الإلهي ونبأ السماء العظيم وصحيح السنة النبوية الشريفة التي جاءت بياناً لهدي القران الكريم.
ولهذه الحقيقة كان إلحاح القران الكريم على أن تتسق أقوال المؤمن مع ما يأتي به من أفعال بل وعلى أن يضع المؤمن الأقوال والمبادئ والأفكار في الممارسة والتطبيق “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تفعلون” (الصف 2/3).
وعلى امتداد سور القرآن الكريم وآياته يقترن الإيمان الذي هو تصديق قلبي بالعمل الذي هو ممارسة تجسد هذا الإيمان في الواقع والتطبيق.
ولأن السنة النبوية هي البيان النبوي للبلاغ القرآني كانت المساحة الأكبر من هذه السنة هي السنة العملية التي مثلت التطبيق النبوي للإسلام في ميادين العبادات والمعاملات والأخلاق .. بل إن هذه السنة العملية التي مارسها رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم وصحابته رضوان الله عليهم والتابعون وتابعو التابعين وأجيال الأمة من بعدهم على مر التاريخ هذه السنة العملية هي التي حاز توحدها مرتبة التواتر وأعلى درجات الصدق والموثوقية بين المأثورات والمرويات ومن هنا كان تقديم الإمام مالك (63-179هـ/712-795م) رضي الله عنه عمل أهل المدينة الذي هو سنة عملية على مأثورات ومرويات الأقوال والأفكار.
وإذا كانت القدوة الأولى والأسوة الأعظم والنموذج الأمثل للمسلم هو رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فإن سيرة هذا الرسول الكريم قد كانت هي التفسير الحي والعملي لكل عقائد الإسلام ومبادئه وأركانه وقيمه وواجباته وسننه ومستحباته .. كان النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم كما جاء في الحديث الشريف “خلقه القرآن” رواه مسلم. وفيه وبه تحولت الأفكار إلى أعمال والنظريات إلى تطبيقات والقيم إلى طبائع وسجايا وممارسات.
فإذا أردنا شرف الإقتداء بسيد البشر، وإعادة النموذج الاجتماعي الذي أقامه هو وصحابته في صدر الإسلام، وإذا أردنا السعادة بصحبته يوم نلقى الله فعلينا أن نحول المواعظ إلى سلوك والفكر إلى أعمال والنظريات إلى ممارسات لنكون على طريق الذين قال الله لهم: “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً” (الأحزاب:21) .. وحتى لا نقول ممن قال الله فيهم: ” يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ” (الصف 2/3).
وإذا كان الإسلام هو الطاعة .. وإذا كانت الطاعة هي ثمرة من ثمرات المحبة .. فإن الإقتداء برسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم في تجسيد الإيمان والفكر بميدان أن العمل والتطبيق هو السبيل إلى الدخول في ظلال من يحبهم الله سبحانه وتعالى: “قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ” (آل عمران 31).
لقد كتب كاتب غربي –غير مسلم- بل ناقد للقرآن والإسلام هو كارليل (1795-1881م) كتابا عن المائة الذين رآهم أعظم عظماء الإنسانية ووضع رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم المتفرد بين هؤلاء العظماء بتطبيق وتنفيذ وتجسيد الدعوة التي جاء بها في أرض الواقع والممارسات”، وقد وقف الآخرون وفيهم أنبياء ومرسلون عند حدود “الدعوة” فلم يقيموا مدنية، ولم يصنعوا حضارة، ولم ينشئوا الدولة التي تحرس البناء وتنميه .. أما رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فلقد تفرد بتحويل العقائد والأفكار إلى خُلق وعمل وتطبيق وحياة .. وبذلك رسم للمعتقدين به طريق النهوض والتقدم والارتقاء .. تحويل “الفكر الصحيح” إلى “عمل صريح”.

ليست هناك تعليقات: