نحن نلوم الطغاة لأنهم يظلمون الناس، لكننا لا نلوم الناس الذين يسكتون عن الظلم، في حين ان ذلك السكوت هو الذي يغري الظلمة بالتمادي في ظلمهم، وحين نبه آرثر ميللر الكاتب المسرحي الأميركي الراحل الى هذه المسألة، وانتقد في مسرحيته «حدث في فيتشي» تخاذل اليهود واستسلامهم للموت الذي كان يسوقهم اليه النازيون فإن ذلك اثار المنظمات الصهيونية ضده حتى اتهمته- وهو اليهودي- بتبرير سلوك النازيين، ورغم ان ملاحظته كانت دقيقة وصائبة، الا ان تلك المنظمات كانت ومازالت حريصة على ان تصور اليهود في دور الضحية دائما، لتبتز العالم بقصة «ابادتهم».
مع ذلك فالسائد في الادبيات التي تناولت موضوع الظلم انها تصب جام غضبها على التنديد بالظلمة، وذلك امر سهل وفي مقدور كل احد لكن التصدي بالنقد لظاهرة الاستسلام للظلم والانصياع له، يتطلب شجاعة أكبر لانه في احوال كثيرة يكون بمنزلة نقد للذات لا يقدر عليه كثيرون، ومما هو جدير بالملاحظة في هذا الصدد ان القرآن اهتم كثيرا بذلك الجانب المسكوت عنه، حتى توعد المستسلمين للظلم بالخذلان والعذاب اذا ما قبلوا بالضيم واستسلموا له. (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا). وثمة نصوص أخرى عديدة في هذا المعنى، منها ما انتقد اهل مصر الذين استخف بهم الفرعون فأطاعوه ولم يقاوموه، ومنها ما امتدح المؤمنين الذين إذا أصابهم البغي فإنهم ينتصرون فينتفضون والاحاديث النبوية كثيرة في هذا الباب،
وقد أوردها الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين، حين أفرد فصلا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، معتبرا ان مقاومة الظلم هي جوهر ذلك التكليف الشرعي. منذ وقت مبكر اعتبر فقهاء المسلمين ان الامامة عقد يقوم على تحقيق العدل (إن الله يأمر بالعدل). وبالتالي فإن الظلم لا يشكل عدوانا على ذلك العقد فحسب، ولكنه يجعله ينفسخ لانه قوض الاساس الذي يقوم عليه، ولذلك ذهب بعض الباحثين الى القول إن الإسلام تبنى في هذا الجانب موقفا تحريضيا فريدا في بابه، اضفى بمقتضاه شرعية على مقاومة ظلم الانظمة (التي يفترض أن لها شرعية قانونية).
ولبعض كبار الباحثين في مصر كتابات منيرة سلطت الضوء على هذه الفكرة، في المقدمة منهم الراحلان د.محمد ضياء الدين الريس ود.محمد طه بدوي، وقد حرص فقهاء الاصول على وضع ضوابط لمراتب مقاومة الظلم، بحيث لا تنتهي الى الفوضى أو تغليب المفاسد على المصالح، الا ان الامر لم يخل من مذاهب استسهلت «الخروج» على الحكام الظلمة، حتى حولته الى مغامرة أساءت الى الفكرة، كما حدث في ممارسات بعض اتباع المذهب الزبيدي. وفي مقابل الاتجاهات التي ذهبت بعيدا في الدعوة الى الخروج، فقد ظهرت في التاريخ الاسلامي دعوات حثت على الرضا بالظلم، لتجنب الفوضى التي قد تؤدي الى انهيار النظام الاسلامي،
وقد عرض الدكتور طه بدوي لهذه الاتجاهات كلها في الكتاب الذي اصدره في منتصف القرن الماضي حول «حق مقاومة الحكومات الجائرة في الاسلام». في مجتمعاتنا المعاصرة ظهرت ثلاثة عوامل اثرت بالسلب على فكرة مقاومة الظلم، اولها ان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر اختزل في ممارسات متعلقة بالسلوك والطقوس، الامر الذي افرغ التكليف الشرعي الجليل من مضمونه الحقيقي، العامل الثاني ان مجتمعاتنا اصابها الوهن، بعدما جرى تفكيكها بما أفقدها القدرة على الفعل، وكان للانظمة الاستبدادية دورها الاساسي في ذلك، لانها اعتبرت ان استمرارها وتمكينها مرهون بكفاءتها في تصفية خلايا العافية في المجتمعات التي تحكمها،
العامل الثالث ان الدولة الحديثة توافرت لها قدرات جبارة مكنتها من الاستقواء في مواجهة المجتمع وقهره عن طريق اساليب القمع التي جعلت مقاومة الظلمة امرا مكلفا، يفوق قدرة الكثيرين على الاحتمال. في هذه الاجواء تصور البعض ان الاستبداد اصبح قدر العالم الثالث، فمن قائل ان خيارنا اصبح بين انظمة مستبدة لينة (ديكتابزندا) واخرى غليظة وصارمة (ديكتادورا) - وقائل بتفضيل المستبد العادل، او المستبد العاقل، الى غير ذلك من التخريجات التي تسوغ الاستسلام لما هو قائم وتزين القبول به، لكنها جميعها لم تستطع ان تستر قبح الاستبداد بكل صوره، الامر الذي اعاد طرح السؤال الكبير حول كيفية حشد المجتمع لقواه الفاعلة التي تمكنه من مقاومة الظلم شريطة ان تكون مستعدة لدفع ثمن هذه المقاومة. وأضع خطا أحمر تحت حشد المجتمع لقواه، لان تفكك تلك القوى وشرذمتها هو العنصر الرئيسي في استقواء الاستبداد واستمراره
مع ذلك فالسائد في الادبيات التي تناولت موضوع الظلم انها تصب جام غضبها على التنديد بالظلمة، وذلك امر سهل وفي مقدور كل احد لكن التصدي بالنقد لظاهرة الاستسلام للظلم والانصياع له، يتطلب شجاعة أكبر لانه في احوال كثيرة يكون بمنزلة نقد للذات لا يقدر عليه كثيرون، ومما هو جدير بالملاحظة في هذا الصدد ان القرآن اهتم كثيرا بذلك الجانب المسكوت عنه، حتى توعد المستسلمين للظلم بالخذلان والعذاب اذا ما قبلوا بالضيم واستسلموا له. (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا). وثمة نصوص أخرى عديدة في هذا المعنى، منها ما انتقد اهل مصر الذين استخف بهم الفرعون فأطاعوه ولم يقاوموه، ومنها ما امتدح المؤمنين الذين إذا أصابهم البغي فإنهم ينتصرون فينتفضون والاحاديث النبوية كثيرة في هذا الباب،
وقد أوردها الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين، حين أفرد فصلا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، معتبرا ان مقاومة الظلم هي جوهر ذلك التكليف الشرعي. منذ وقت مبكر اعتبر فقهاء المسلمين ان الامامة عقد يقوم على تحقيق العدل (إن الله يأمر بالعدل). وبالتالي فإن الظلم لا يشكل عدوانا على ذلك العقد فحسب، ولكنه يجعله ينفسخ لانه قوض الاساس الذي يقوم عليه، ولذلك ذهب بعض الباحثين الى القول إن الإسلام تبنى في هذا الجانب موقفا تحريضيا فريدا في بابه، اضفى بمقتضاه شرعية على مقاومة ظلم الانظمة (التي يفترض أن لها شرعية قانونية).
ولبعض كبار الباحثين في مصر كتابات منيرة سلطت الضوء على هذه الفكرة، في المقدمة منهم الراحلان د.محمد ضياء الدين الريس ود.محمد طه بدوي، وقد حرص فقهاء الاصول على وضع ضوابط لمراتب مقاومة الظلم، بحيث لا تنتهي الى الفوضى أو تغليب المفاسد على المصالح، الا ان الامر لم يخل من مذاهب استسهلت «الخروج» على الحكام الظلمة، حتى حولته الى مغامرة أساءت الى الفكرة، كما حدث في ممارسات بعض اتباع المذهب الزبيدي. وفي مقابل الاتجاهات التي ذهبت بعيدا في الدعوة الى الخروج، فقد ظهرت في التاريخ الاسلامي دعوات حثت على الرضا بالظلم، لتجنب الفوضى التي قد تؤدي الى انهيار النظام الاسلامي،
وقد عرض الدكتور طه بدوي لهذه الاتجاهات كلها في الكتاب الذي اصدره في منتصف القرن الماضي حول «حق مقاومة الحكومات الجائرة في الاسلام». في مجتمعاتنا المعاصرة ظهرت ثلاثة عوامل اثرت بالسلب على فكرة مقاومة الظلم، اولها ان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر اختزل في ممارسات متعلقة بالسلوك والطقوس، الامر الذي افرغ التكليف الشرعي الجليل من مضمونه الحقيقي، العامل الثاني ان مجتمعاتنا اصابها الوهن، بعدما جرى تفكيكها بما أفقدها القدرة على الفعل، وكان للانظمة الاستبدادية دورها الاساسي في ذلك، لانها اعتبرت ان استمرارها وتمكينها مرهون بكفاءتها في تصفية خلايا العافية في المجتمعات التي تحكمها،
العامل الثالث ان الدولة الحديثة توافرت لها قدرات جبارة مكنتها من الاستقواء في مواجهة المجتمع وقهره عن طريق اساليب القمع التي جعلت مقاومة الظلمة امرا مكلفا، يفوق قدرة الكثيرين على الاحتمال. في هذه الاجواء تصور البعض ان الاستبداد اصبح قدر العالم الثالث، فمن قائل ان خيارنا اصبح بين انظمة مستبدة لينة (ديكتابزندا) واخرى غليظة وصارمة (ديكتادورا) - وقائل بتفضيل المستبد العادل، او المستبد العاقل، الى غير ذلك من التخريجات التي تسوغ الاستسلام لما هو قائم وتزين القبول به، لكنها جميعها لم تستطع ان تستر قبح الاستبداد بكل صوره، الامر الذي اعاد طرح السؤال الكبير حول كيفية حشد المجتمع لقواه الفاعلة التي تمكنه من مقاومة الظلم شريطة ان تكون مستعدة لدفع ثمن هذه المقاومة. وأضع خطا أحمر تحت حشد المجتمع لقواه، لان تفكك تلك القوى وشرذمتها هو العنصر الرئيسي في استقواء الاستبداد واستمراره
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق