نضير الخزرجي
يقتضي المقام عند التطرق الى موضوع التنوع والاختلاف والتعددية، الاقتراب ولو قليلا من عتبة الحديث عن تاريخ نشأة الفرق الدينية في إطار الإسلام، وعلة النشوء،
لان أكثر الفرق الإسلامية التي اندثر كثيرها، مارست في حقيقة الأمر ما تمارسه التكتلات الحزبية في عصرنا الحاضر،
فأهداف الكثير من الفرق التي عرفها الإسلام تتطابق مع أهداف أي تكتل حزبي في بلد شوروي ديمقراطي،
فأحد أهم أهداف الحزب، كما هو الظاهر من تعريف الحزب، وما هو ثابت على ارض الواقع السياسي، هو إدارة دفة الحكم، وهذه الغاية كانت قائمة في أذهان الكثير من زعماء ومؤسسي الفرق الدينية والحركات السياسية في عصر الإسلام الأول،
وحتى لو قلنا أن من أهداف الفرق الدينية إصلاح الوضع القائم والأخذ بيد الأمة الى الطريق السليم، فان هذه الهدفية لا تخرج عن غاية قيادات الأحزاب السياسية المعاصرة التي تؤكد في الأدبيات الحزبية أنها ترمي الى إضاءة الطريق أمام الشعب والأخذ به نحو سبيل التقدم والرقي.
الفِرقة والحزب السياسي
ويذهب الأكاديمي المصري وأستاذ التاريخ الاسلامي الحديث الدكتور محمد ضياء الدين الريس في كتابه (النظريات السياسية الإسلامية) الى ان فكرة الأحزاب السياسية كما تفهم اليوم كانت موجودة منذ القرن الأول من تاريخ الإسلام،
وان ما أطلق عليه اسم "الفرق الإسلامية" هي عين ما يسمى الآن بالحزب، ذلك إن: "من الصفات العامة التي تتميز بها الفرق الإسلامية أنها لم تكن مجرد مدارس فكرية تصل الى تكوين آراء ثم تكتفي بإبدائها أو تدوينها،
ولكنها كانت (أحزابا) - بالمعنى السياسي الذي نفهمه اليوم في ميدان السياسة العملي- فلها مبادئ معينة أشبه بالبرنامج المرسوم ولها نشاط وفيها نظام، ثم هي تسعى وتكافح حتى تحقق لهذه المبادئ النصر، وتجعل منها إن استطاعت منهاج الحكم". والسر في ذلك، كما يضيف: "إن هذه المبادئ لم تكن مجرد أفكار نظرية أو خيالية، ولكنها كانت في عقيدة الفرق أو الأحزاب دينا وقانونا يجب أن يتبع وينفذ، ومثلا أخلاقيا ينبغي أن يحتذى، ومن هنا كان أثرها في التاريخ، وصلتها القريبة به وتوجيهها لوقائعه"(1).
ويتفق الدكتور محمد عمارة مع هذا الرأي بقوله: "كانت الفرق الكلامية تنظيمات سياسية تميزت في (المقالات، أي، النظريات) وفي الوسائل التي اعتمدتها لوضع هذه (المقالات) في الممارسة والتطبيق، فللخوارج مقالات، ومنهج في الوصول لتحقيق مقالاتهم، وكذلك الحال عند المعتزلة، وعند الشيعة بفصائلها المتعددة المعتدلة منها والمغالية، العلنية منها والسرية"(2).
ونجد هذا الرأي عند كثير من الكتاب والعلماء والباحثين وهو ما أميل اليه، فهم يصفون التكتلات التي ظهرت بخاصة بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان (ت 35هـ) بأنها أشبه بما يتعارف عليه اليوم بالأحزاب أو الجماعات،
وكان الجامع بين تلك الجماعات هو الموقف السياسي وتصور الحل الإسلامي للخروج من الوضع الحرج الذي وصل إليه حال الأمة الإسلامية آنذاك.
إذ يصف الشيخ أبو زهرة محمد بن أحمد (1316-1394هـ) هذا الظرف، بقوله: "في عهد الخليفة (عثمان) ابتدأ الخلاف قويا حادا وظهر ذلك الخلاف في فتن كموج البحر، وكانت هذه الفتن، الخطوة الأولى لتكوين المذاهب السياسية"(4). ولا يمكن تجاوز هذا الأمر أو تغافله: "فمسألة التكتل المذهبي هو في بعض منطلقاته حزب فكري سياسي واجتماعي، والذي اصطلح عند المتشرعة بالفرق، فهو ظاهرة من مظاهر الحزبية التي أفرزها واقع المسلمين منذ القرن الأول الهجري"(5).
ويقول المؤرخ البريطاني، والخبير في الشؤون الاسلامية، الدكتور آرثر ستانلي تريتون (Arthur Stanley Tritton) (1881-1973م): "الشيعة ويعني هذا الإسلام (فريقا أو حزبا أو أتباعا)، ولكن عندما يستخدم بكل ما في الكلمة من معنى فانه يشير الى طائفة في الإسلام كونها استقطابا لحزب علي.
لقد بدأت كحزب سياسي بين العرب، ونظر أتباع هذا الحزب الى علي –ع-ابن عم وصهر محمد –ص-، وسلالته زعيما، وسرعان ما استقرت هذه الحركة في العراق"(6).
هناك مشتركات بين العمل الحزبي وبعض مفاهيم الدين، فالسلطة أو الخلافة أو الإمامة أو عموم الحكم هي من المشتركات، ومراقبة عمل السلطة القائمة، هي مما يشترك فيها الدين والحزب السياسي، وبخاصة الحزب السياسي الإسلامي، الذي يرفع شعار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي من الشعارات المشتركة ذات الأهمية الكبرى، حيث يعد هذا الشعار من الواجبات والتكليفات ومن فروع الدين، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، منهج إصلاحي عام وبرنامج أخلاقي واسع، يشترك فيه الدين مع الحزب الاسلامي الإصلاحي الذي يستمد أسسه من نفس الدين.
السلطة ونشأة الفرق
لكن الباحث والأكاديمي العراقي، الدكتور حسن عباس حسن (1938-1993م) يؤكد أن النزاع على السلطة كان منشأ الفرق إذ: "إن انقسام المسلمين الى طائفتين رئيستين كان عامله الأول سياسيا وهو إرادة ممارسة السلطة، وقد تمت هذه الإرادة لطائفة السنة بعد وفاة الرسول (ص) مباشرة، واستمرت في فترات مختلفة طويلة (فترة الخلفاء الراشدين وفترة الحكم الأموي والحكم العباسي). وبناء على ذلك اختلفت الطائفتان بالرأي، ونتيجة لذلك ترسخت أسس ودعائم هذا الاختلاف أصبحت تتبعها الاختلافات الفقهية تحت بابين رئيسيين هما المذاهب الأربعة لأهل السنة والجماعة ومذهب أهل البيت الشيعة"(9).
لاشك إن الباحثين وعلماء التاريخ، اختلفوا حول بدء نشأة الفرق والأحزاب الدينية في صدر الإسلام، ولكنهم اتفقوا بشكل عام على أن الشيعة كانت أول فرقة أو حزب إسلامي برز الى سطح الأحداث السياسية،
إذ يرى الدكتور مراد هوفمان وهو سفير ألماني سابق في المغرب أعلن إسلامه منذ سنوات، أن "الشيعة" نشأت أول ما نشأت كحزب، ثم تطور الحزب فيما بعد ليصبح فرقة من الفرق الإسلامية"(11).
ومثل هذا الرأي، نجده في الموسوعة البريطانية عند تعريفها للشيعة، ويبدو أن الكاتب استفادة في تعريفه للشيعة بما موجود في الموسوعة البريطانية، وهي من الموسوعات الكبيرة والشهيرة، فحسب الموسوعة إن: "شيعة علي تطورت بالتدريج من حزب سياسي الى حركة دينية"(12).
أحزاب أم فرق دينية؟
ويذهب أحد الكتاب مذهب التفريق بين الأحزاب الدينية والفرق الدينية التي ظهرت في بداية عصر الإسلام، إذ يقسم شيخ الأزهر الأسبق الدكتور عبد الحليم محمود (1907-1978م) الفرق في الحضارة الإسلامية الى: أحزاب دينية وفرق دينية.
ويرى أن: "الأحزاب الدينية هي (الشيعة والخوارج)، والفرق الدينية هي بحسب الترتيب الزمني: المشبهة والمعتزلة والأشاعرة ومدرسة ابن تيمية...
وان هذا التقسيم في رأينا يتمشى مع طبيعة الأشياء، إذ أن الأحزاب الدينية نشأت حول الإمامة، وبسببها، وأما الفرق الدينية، فإنها نشأت من التفكير في الدين، وقد استقلت كل فرقة برأي يتصل بالعقيدة يخالف رأي غيرها"(15)، وهذا رأي ذهب اليه من قبل ابن خلدون عبد الرحمن بن محمد (1332-1405م).
ويلاحظ في هذا التقسيم الجانب السياسي السلطوي، فالإمامة أو الخلافة أو مجمل الحكم، كان موضع الخلاف بين الصحابة الذي انتهى الى تشقق المسلمين الى أحزاب وفرق بعد وفاة الرسول الأكرم محمد (ص)، ويقترب تمييز الحزب عن الفرقة بالصراع على السلطة مع مفهوم الحزب السياسي في الوقت الحاضر الذي يعد عملية تسلم السلطة واحدة من أهداف وأولويات الحزب السياسي في المفهوم الديمقراطي.
لكن الفرق الدينية التي أشار إليها الدكتور عبد الحليم محمود تفاعلت في محيطها الفكري عدة من التيارات السياسية التي كانت تدعو الى مقاومة الحاكم الظالم تارة، والدعوة الى إقامة حكم جديد وبصورة علنية تارة أخرى، وأكثرها بصورة سرية، وتارة الى تأكيد الولاء للحكم القائم وتكفير أو تهميش المعارضين له، فالجانب السياسي الذي يستهدف نيل السلطة قائم بين الأحزاب الدينية السياسية والفرق الدينية،
لكن الشاطبي أبو اسحق ابراهيم بن محمد (ت790هـ/1388م) يقدم فهما خاصا لمعنى الفرقة: "إن هذه الفرق إنما تصير فرقا بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلى في الدين وقاعدة من قواعد الشريعة، لا في جزئي من الجزئيات، إذ إن الجزئي والفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعا، وإنما ينشأ التفريق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية، لان الكليات نص من الجزئيات غير قليل، وشاذها في الغالب أن لا يختص بمحل دون محل، ولا بباب دون باب"(16).
فيما يرى الدكتور حسن عباس إن الفرق الإسلامية حقيقة واقعة لا يمكن تجاهلها: "إذ قد ابتلى الإسلام بظاهرة الفرقة منذ وفاة الرسول (ص) وان كل فرد (أو جماعة) يحاول أن يثبت أو يدعي إن اتجاهه هو الاتجاه الصحيح في الإسلام، وبالتالي فانه يمثل الفرقة الناجية المشار إليها في حديث الرسول (ص): (ستفترق أمتي الى ثلاث وسبعين فرقة، الناجية منها واحدة والباقون هلكى) وان لكل اتجاه أدلته، وكانت نتيجة ذلك مواصلة الفرقة وسوء الظن بالآخرين، إن حديث الافتراق يشمل المسلمين كافة منذ وفاة الرسول (ص) الى أن تقوم الساعة"(17).
السقيفة ونشأة الفِرق
فربما لو لم تكن واقعة السقيفة، والخلاف على تولي إمامة المسلمين لم يحصل الفتق الديني والمذهبي والفِرقي،
ولهذا يذهب السيد القزويني (1930-1994م) الى أن: "الإمامة هي مفترق الطرق ومعترك الآراء، ومن هنا حصل الانشقاق والاختلاف بين المسلمين، وجالت الأقلام، واضطربت الأقوال، وتكونت المذاهب، ووصل أمر المسلمين الى ما هو عليه اليوم!"(18).
هذا المعنى يقول به عضو مجمع البحوث الاسلامية في جامعة الأزهر، الأديب الدكتور مصطفى الشكعة، إذ يرى أن: "الفرق الإسلامية كانت عند نشأتها فرقا سياسية وليست دينيه، والاختلاف بينها لم يكن اختلافا في صلب العقيدة الإسلامية وإنما كان خلافا في الرأي حول طريقة الحكم واختيار الحاكم، ثم انقسمت كل فرقة الى عدة فرق"(19)، ويؤيده في هذا الرأي شيخ فقهاء القانون الدستوري المصري المعاصر، الدكتور عبد الحميد متولي، حيث يرى: "ان المذاهب السياسية الإسلامية تدور كلها حول الخلافة، فقد كان الخلاف حولها سببا في تكوين مختلف الفرق والأحزاب"(20).
وقد تجسد الاتجاه الشيعي، منذ اللحظة الأولى، في إنكار ما اتجهت إليه السقيفة من تجميد لأطروحة زعامة الإمام علي، وإسناد السلطة الى غيره"(24). لكن باحثا غربيا مثل الدكتور بيتر كلارك Peter B. Clarke)) أستاذ علم اللاهوت في جامعة اوكسفورد البريطانية، يرى أن الشيعة والسنة انتشرت بذور نشأتهما بعد رحيل النبي محمد في العام 632م (25).
يلاحظ هنا أننا أمام مفردات عدة من قبيل: حزب، فرقة، مذهب، اتجاه، خط، وردت في الحديث عن نشأة الفرق أو الانشقاقات المذهبية في صدر الإسلام، ولكنها جميعا تشعبت وأسفرت عن وجهها في سقيفة بني ساعدة في سماطين أحدهما مؤيد للإمامة والآخر مؤيد للخلافة، ومن هذا المكان انطلقت فيما بعد المذاهب الدينية والسياسية والفقهية وغيرها.
ويعزو السيد القزويني منشأ الخلاف والاختلاف وبروز الفرق الإسلامية والأحزاب الدينية في العصر الأول من الإسلام في طرق الوصول الى مصدري التشريع الإسلامي (القران الكريم والسنة الشريفة) واستلهام الأحكام، فالمسلمون: "متفقون على أن مصدر التشريع الإسلامي هو القران الكريم والسنة النبوية، ثم اختلفت الآراء حول الطرق التي تنهي الى هذين المصدرين والمرجعين، فهناك الكثيرون الذين اخذوا العقائد والأحكام من أناس لا يوثق بهم ولا يُعتمد عليهم وإنما اخذوا منهم ما اخذوا بدافع الهوى لا بدافع طلب الحق والحقيقة.
ومن هنا تكونت المذاهب العديدة أو تفرقت الطرق الكثيرة، بسبب اختلاف الأقوال التي ظن الناس أنها السبُل التي تنتهي الى القران العظيم والسنة النبوية.. فالاختلاف في العقائد الإسلامية، والمسائل الفقهية أيضا سببه اختلاف الطرق التي اخذ الناس منها هذه الأحكام، وهكذا تكونت المذاهب الإسلامية(26).
ويورد الدكتور الفيومي عضو مجمع البحوث الاسلامية ورئيس قسم أصول الدين بجامعة الأزهر، في ذلك حديثا عن النبي، إذ سئل النبي ذات مرة عن أهل الجماعة والسنة والفرقة والبدعة، فقال النبي: "أما أهل الفرقة فالمخالفون لي ولمن اتبعني وان كثروا، وأما أهل البدعة فالمخالفون لأمر الله عز وجل وكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه، العاملون بآرائهم وأهوائهم وان كثروا، وأما أهل السنة فالمتمسكون بما سنَّه الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وان قلوا"،
ويحاول الفيومي أن يجد شخوصا لهذه الفرق، فيقول إن: "مصطلح (الجماعة) فأصل ذلك اجتماع الناس على أبي بكر عبد الله (ت 13هـ) بعد النبي (ص)، ثم على عمر (ت 23هـ) ثم على عثمان (ت 35هـ)، ثم على علي... فقيل لهم: أهل الجماعة، وكان هذا الاسم قد بان لهم بعد خروج علي (رض) وأصحاب الجمل وأهل الشام، حتى قتل علي (رض)، فلما قتل وكثرت الفتن بخروج الحسن، ثم بخروج الحسين، ثم بعد ذلك أيام الزبير (ابن الزبير عبد الله، ت 73هـ) والخوارج... كان السواد الأعظم وعامة الناس مجتمعين على بني أمية أيام معاوية، وبعده على ولده، ثم بعد ذلك على بني مروان... فادعى جمهور التابعين هذا الاسم، وقالوا: نحن أهل الجماعة.. فمن خالفنا فقد شق العصا، وخالف الأمة، وترك السنّة، ونحن أهل السنّة"(27).
حديث الفرقة الناجية
لكن كاتبا آخر يجد حلا وسطا في تعاطي مفردة الفرقة الناجية، إذ يرى الكاتب الاسلامي السعودي، الدكتور محمد المسعري إن: "جماهير المسلمين اليوم فهم الفرقة التي بقيت، في الجملة، على ما كان عليه الرسول (ص)، وهذه هي الفرقة الناجية - إن شاء الله- تنتسب إليها مذاهب فقهية كالمذهب الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي والظاهري والزيدي والجعفري والاباضي ومذاهب فقهية أخرى منقرضة كمذهب الإمام الاوزاعي، ومذهب إسحاق بن راهويه وغيرهم، كما تضم مدارس كلامية مختلفة مثل مدرسة أهل الحديث، ومدرسة الإمام ابن تيمية، ومدرسة الإمام بن حزم، والاشاعرة، والماتريدية، والكلابية، والزيدية، والاباضية وغيرهم من أهل القبلة، كما تتكون من طرق ومسالك صوفية كالطريقة الشاذلية، والطريقة النقشبندية، والقادرية، والجشتية، والسهروردية، والحصافية، وغيرها"(28).
وهو ما يذهب اليه المفكر المصري رئيس قسم الفلسفة في جامعة القاهرة، الدكتور حسن حنفي(29). وكذلك يذهب إليه الداعية التونسي الشيخ راشد الغنوشي في معرض حديثه عن الرافضين للعمل الحزبي فـ: "الفكر السياسي الرافض للحزبية، ورغم انحساره على مستوى التنظير لا يزال يمثل في تقديرنا العقلية السائدة في الوسط الإسلامي، والتي تتلخص في تأويل خاص لأثر مشكوك في صحته، هو الأخبار عن افتراق الأمة الى أكثر من سبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، فكل جماعة تنطلق في عملها من اعتبارها المقصودة بالفرقة الناجية والبقية في ضلال مبين". ولكن الغنوشي يعود ليلتقي مع المسعري بالقول: "وحتى لو صح هذا الأثر فالفرقة الناجية هي عموم الأمة المعترفة بالمرجعية العليا للوحي وان اختلفت في الاجتهاد"(30).
وهناك طبقة من الكتاب ومحللي التاريخ والرواة، يرون أن الفرق والأحزاب الإسلامية نشأت بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، حيث نشأت الأحزاب السياسية والمذاهب الفقهية: "بعدما قُتل عثمان بن عفان (رض)، وبويع بالخلافة علي بن أبي طالب (ع)، ونازعه عليه معاوية بن أبي سفيان، واشتعلت الحرب بين الفريقين وانتهت الى تحكيم الحكمين، وقد نتج عن ذلك نشوء أحزاب سياسية جديدة لم تكن من قبل، وصارت لهذه الأحزاب آراء جديدة، وقد ابتدأ الرأي سياسيا بشأن الخليفة والخلافة، ثم شمل الأحكام أو كثيرا منها"(31). ويعتقد الأكاديمي العراقي الدكتور الساعدي إن المعارضة ضد الخليفة عثمان إنما: "انطلقت في موقفها من وعي ديني يستمد مقوماته من القران، وتبلورت فيما بعد حسب فرق إسلامية سياسية، كان لنشأة بعضها صلة بالثورة التي حاصرت الخليفة وأنهت حياته"(32)، ومثل هذا يذهب إليه الشكعة ذلك انه: "عندما مات عثمان، انقسم المسلمون الى حزبين، الحزب الأكبر وقد سمي (شيعة)، والحزب الأقل وقد سمي شيعة معاوية، ثم ما لبث اللفظ بمرور الأيام أن اتخذ معنى محددا، وهو أنصار علي بن أبي طالب وأبنائه وأحفاده من بعده"(33).
أما أبو بكر بن العربي المالكي (ت 543هـ/1148م) فانه يعتبر في كتابه (العواصم من القواصم) في الصفحة 245، أن مقتل عثمان فرّق الناس شيعا يقاتل بعضها بعضا، مضيفا: "واستأثر الله برسوله (ص) ونفرت النفوس وتماسكت الظواهر منجزّة ما دام الميزان قائما، فلما رفع الميزان اخذ الله القلوب على الألفة ونشر جناحا من التقاطع حتى سوّى جناحين بقتل عثمان، فطار في الآفاق واتصل الهرج الى يوم المساق وصارت الخلائق عزين في كل واد من العصبية يهيمون، فمنهم بكرية وعمرية وعثمانية وعلوية وعباسية، كل تزعم أن الحق معها وفي صاحبها والباقي ظلوم غشوك مقتر من الخير عديم، وليس ذلك بمذهب ولا فيه مقالة وإنما هي حماقات وجهالات أو دسائس للضلالات"(34).
لكن الباحث العراقي، السيد الآلوسي يرجع نشوء الفرق الإسلامية الى مقتل الإمام علي (ع)، فالحكم بعد فترة حكم الخلفاء: "مباشرة انعطف وانحرف وتحول الى قيصرية أو كسروية أو شبيه بهما. لقد كان من نتائج هذا التحول والانحراف ظهور فرق وجماعات إسلامية معارضة له اتخذت لها في التاريخ الإسلامي مواقف الرفض للمنحرفين في محاولة منها للتقويم...
ويؤكد المؤرخ العراقي، السيد الحسني العاملي (1914-1983م) إن انتشار الإسلام كان عاملا مساعدا في نشوء الفرق: "لقد ظهرت في القرون الأولى الإسلامية فرق وأحزاب كان من ابرز أسبابها اختلاط العرب بغيرهم من الشعوب التي غزاها الإسلام واضطرها للاستسلام والخضوع لسلطانه"(36).
فالفرق والمذاهب الإسلامية تشكلت في صدر الإسلام، وبقي منها ما بقي، وإذا كانت كل واحدة ترى أن الشرعية متمثلة بها، فان هذا لم يمنع الكثير منها من التعامل مع الأخرى والاعتراف بوجودها بغض النظر عن الشرعية وما إذا كانت تعاليم المذهب موافقة لتعاليم السماء ومنسجمة مع السنة الشريفة، لان مثل هذه الشرعية اختلفت المذاهب في فهم خطوطها العامة فبله بالتفاصيل الجزئية،
فعلى سبيل المثال ان أئمة الشيعة الإمامية رغم أنهم يجدون الشرعية في أنفسهم وبعض أئمة المذاهب الإسلامية درس على أيديهم مثل قيام الإمام أبو حنيفة نعمان بن ثابت (ت150هـ) بالتتلمذ على يد الإمام جعفر بن محمد الصادق، لكنهم وكما يشير لذلك السيد القبانجي: "أن تعاملوا مع المذاهب على أساس التعددية، ودخلوا في محاججات معها، ولم يوصدوا الباب كما فعل غيرهم حيث قالوا إن المذاهب أربعة فقط، و أوصدوا باب الاجتهاد منذ 1200 عام، فحتى مذهب أهل البيت عليهم السلام عندهم غير مقبول،
وقد كان ذلك أمرا سياسيا اتخذ من قبل الحكم العباسي..
ويقدم الدكتور هوفمان تفسيرا إيجابيا لنشوء الفرق الإسلامية والمذاهب الفقهية معتبرا: "إن نشأة هذه المذاهب الفقهية لم يكن بحال من الأحوال عرضا مرضيا من أعراض الطائفية والتشيع فرقا، وإنما كان ولا يزال دليلا قاطعا على الحيوية والسماحة اللتين صبغتا الفكر الجمعي الخلاّق في الإسلام"(38).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق