25 ديسمبر 2009

'' مصر بلد واحد .. وشعبان ''





 '' مصر بلد واحد .. وشعبان ''

نيويورك تايمز


الكاتب الأمريكى توماس فريدمان : بعض المصريين يعيشون كالأمريكان .. والأكثرية لا يستطيعون العيش كمصريين
قدم الكاتب الأمريكي المعروف توماس فريدمان رفعاً للأحوال الاقتصادية في مصر أبرز فيه مدى معاناة عامة الشعب المصري من الغلاء وعجزهم عن توفير أبسط الاحتياجات الإنسانية.. تحدث الكاتب عن المفارقة بين أحوال هؤلاء العامة ونخبة صغيرة ترفل في الرخاء والنعيم حتى إنهم يعيشون كالأمريكيين.





وخلص الكاتب الأمريكي في مقال بعنوان "خطاب من القاهرة" نشرته صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية الأحد 15-6-2006 إلى أن الشعب المصري خرج من مقايضة بينه وبين النظام صفر اليدين بعدما عجز الأخير (أو تخلى) عن تلبية احتياجات المصريين مقابل انصراف الشعب عن السياسة وتركها للنظام في إشارة منه إلى أن المجتمع المصري لا يزال يسلم أمره للحكام باعتباره مجتمعا نهريا.
وكتب فريدمان يقول: "إن ما يحدث كصفقة مبدئية بين النظام المصري وشعبه -الذي يقول: نحن نضمن لكم غذاءً رخيصا ووظيفة وتعليما ورعاية صحية، بينما يجب عليكم أن تبتعدوا عن السياسة- أمر مثير، حتى بعد النمو الذي تم في السنوات الثلاث الأخيرة، والاستقرار الحكومي فإن الرواتب لا تصمد اليوم أمام ارتفاع أسعار الغذاء والوقود.. لم يتبق من طرفي المقايضة سوى: يجب عليكم أن تبتعدوا عن السياسة".
وفي مستهل حديث الكاتب عن الأزمة الطاحنة التي تعتصر المصريين نوه إلى أن أزمة الغذاء العالمي ربما تكون مفهومة في أمريكا، لكن عندما تأتي إلى بلد مثل مصر، حيث تجد مجتمعا يعيش الكثير من الناس فيه قرب حافة الفقر، فإن أسعار الغذاء والوقود يمكن أن تصبح مثارا للقلاقل وعدم الاستقرار.
وفيما يشبه التحذير دق فريدمان ناقوسا للخطر مفاده: "إذا ما استمرت هذه الأسعار في الارتفاع، فإن الغذاء والوقود يمكن أن يعيد تشكيل السياسة في العالم النامي مثلما فعلت القومية والشيوعية في العهود التي تصدرتا فيها".
وابتدأ الكاتب الأمريكي الشهير القصة من اللحظة التي بدأ فيها الرئيس المصري حسنى مبارك ما وصفه فريدمان بأنه إصلاح اقتصادي، والذي جرى منذ سنوات قليلة ماضية وصلت بمعدل نمو سنوي للدولة -الأكبر من حيث عدد السكان في الشرق الأوسط- إلى نحو 7%، إلا أن ارتفاع أسعار الغذاء والوقود الْـتهم هذه التنمية مثلما يأتي طاعون الجراد على (الأخضر واليابس) في دلتا النيل.
صور مؤسفة

ثم في جولة بدأها الكاتب من محل للدواجن المذبوحة في منطقة شعبية بالقاهرة، أخذ يستعرض أحوال فقراء المصريين الذين يرزحون تحت نير الغلاء وسوطه، فمن المحل الموجود بمنطقة شبرا التي يقطنها الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى والذي يمتلكه حسين العشري لفت الكاتب إلى أن المصريين لجئوا إلى الدواجن كبديل يمدهم بالبروتين الرخيص نسبيا؛ إذ لا يقدرون على شراء اللحم الأحمر.
لكن منذ نحو ستة أشهر وأسعار الدواجن تضاعفت مرتين، ويبرر ذلك صاحب المحل بقوله: "إن كل شيء ارتفع سعره، الكهرباء، أسعار الأعلاف، السولار، العمالة، حتى أسعار أدوية الدواجن.. كل شيء".
هذه الأحوال بالنسبة لفقراء مصر الذين يقتربون من نسبة 40% من تعداد سكانها، أصبحت مصدرا لأعمال الشغب اليومية، لاسيما والطعام يلتهم وحده نحو 60% من دخل الأسرة المصرية.
واعترف الكاتب الأمريكي بأن ارتفاع أسعار القمح للضعف بدأ عندما انطلق المزارعون الأمريكيون في التوسع بزراعة الذرة لاستخدامها في إنتاج الوقود الحيوي، مما شكل كارثة بالنسبة للمصريين الذين يعتمدون على واردات القمح الأمريكي في إنتاج خبزهم اليومي.
وعودة لمحل الدواجن حيث لخص حسين العشري (صاحب المحل) الوضع المأساوي للمصريين قائلا: "الآن أصبح الزبائن أقل وحركة البيع والشراء أقل أيضا"، بينما تدخلت ربة منزل في الحوار وقالت فيما يشبه الشكوى: "نحتاج لإطعام الأطفال اللحم، ولكننا لا نقدر إلا على شراء أجزاء الدجاج".
وتقوم محلات الدواجن في مصر بتقطيعها بعد إعدادها وتنظيفها إلى صدور خالية من العظم وأوراك يشتريها القادرون نسبيا، بينما لا يمكن للفقراء سوى شراء ما يطلقون عليه "الأجزاء" أي الرقبة وسلسلة الظهر والأجنحة والقفص الصدري للدجاجة المخلي من اللحم.
وبجوار العشري حيث يقف أحد الباعة الجائلين يبيع البطاطس على عربة كارو اندفعت سيدة -تنتقي حبات البطاطس من فوق العربة- زوجها عسكري متقاعد، تعزف مع جوقة الشاكين: "لم نعد تستطيع الخروج لتحصيل أي ترفيه"، لكنها استدركت فيما يشبه الإذعان والرضا على مضض بحالها: "لكنْ هناك ناس حالهم أسوأ.. الآخرون لا يستطيعون تحمل شراء الطعام".
وأكمل الكاتب الصورة البائسة لأحوال فقراء المصريين عندما استكمل المشهد بقوله: "وفي زاوية المكان حيث يقبع مخبز حكومي تجمهر الناس حول منفذه للبيع وهم بين شد وجذب وعراك وصياح ينتظرون ما يمكنهم الظفر به من معركة الخبر اليومية".
وقد ساعد زبائن بائع البطاطس الكاتب في رسم الصورة القاتمة لأحوال المصريين، عندما اندلعت بينهم مناقشة يملؤها الأسى على معلمي الدولة الذين "لم يعد لديهم ضمير" لما يتقاضونه من أموال باهظة مقابل الدروس الخصوصية إذ لم يعد بمقدور طالب أو تلميذ أي تحصيل علمي بالمدرسة حيث يغص الفصل الواحد بنحو 80 فردا منهم، وبالتالي "فلا تعليم في مدارس الحكومة"، تماما مثلما هو الحال حيث "لا رعاية صحية" في مستشفيات الحكومة ولا في كل نظامها الصحي، إذ يبتزهم الأطباء هناك مقابل الحصول على رعاية صحية محترمة.. ربما لا يعني ذلك برأي الناس أنهم أشرار لأن "الكل معصور".
الحكومة تدعم الأغنياء
ومن شبرا إلى الإسكندرية، حيث شق الكاتب طريقه عبر الطريق الصحراوي المؤدي إليها والذي كان مكتظا بالسيارات، تساءل فريدمان: "كيف يمكن لكل هؤلاء المصريين أن يتحملوا تكاليف سيارة؟"، وكان جوابه: إن الحكومة تنفق سنويا ما يوازي 11 مليار دولار أمريكي للمحافظة على أسعار الوقود، وهو ما يحفظ سعر جالون السولار بما يعادل 1.3 دولار، الأمر الذي يعطي انطباعا جيدا بما يحدثه من أثر طيب للفقراء في الظاهر، بينما فقراء مصر ليس لديهم سيارات!.
ثم يطلب الكاتب من قرائه التفكير في بعض الأرقام، حيث يبرز المفارقة فيما تنفقه الحكومة المصرية أو تدعم به التعليم والرعاية الصحية مقابل دعمها لوقود السيارات التي يمتلكها الأغنياء لا الفقراء، فالحكومة رصدت في موازنتها لهذا العام نحو 6 مليارات دولار على التعليم، وبالمثل رصدت 3 مليارات دولار على الرعاية الصحية، وهما أقل بكثير مما دعمت به وقود سيارات القادرين.
وفيما يشبه السخرية تحدث الكاتب عن فخ رهيب - في معرض تفسيره للمفارقة السابقة - وقعت فيه الحكومة والنظام المصريين، عندما بدءا الخفض التدريجي للدعم بينما كانت الأسعار أقل، ولما ارتفعت الأسعار سيصبح نوعا من الانتحار السياسي لو لجأت الحكومة إلى إلغاء الدعم، فلم يكن أمامها والنظام المصري سوى قتل الرعاية الصحية والتعليم.
وأخيرا صدق فريدمان وأمّن بتأكيده أن بمصر البلد الواحد شعبين، الأول عرض طرفا من أحواله في طول المقال، والثاني شعب يقطن الفلات والقصور العاجية بطول الطريق الصحراوي من القاهرة إلى الأسكندرية والتي هي أقرب للمنتجعات وتلفها الأسوار وتتقدمها البوابات الفارهة الفخمة، و تحمل اسماء مثل "وادي القمر"، و"هايد بارك"، و"بيفرلي هيلز".أحد هذه المجمعات المنعزلة به مجمع جولف ذي 99 حفرة. هذه القصور يقطنها طبقة المصريين الذين كونوا ثروات بالاستفادة من عولمة المال والأعمال.هؤلاء الذين يسمون قصورهم مثل الأمريكيين يعيشون بالفعل مثل الأمريكيين.
واختتم فريدمان: "الأنباء الطيبة بأن بعض المصريين يعيشون اليوم كالأمريكيين ، بينما الأخبار السيئة أن مصريين أكثر لا يستطيعون العيش حتى كمصريين.. وهذا ليس بالأمر الجيد؛ لا لهم، ولا لنا."

ليست هناك تعليقات: