حينما سدت الطواويس الأفق، فإننا لم نر مثابرة النمل ولا إبداعاته، تماما كما ان احباطات السلطة حجبت عنا اشراقات المجتمع.
(1)اتحدث عن الحراك الصامت الذي لم يتوقف في عمق المجتمع المصري.لا اقصد الحراك السياسي الذي يناطح السلطة ويدعو الى التغيير (رغم ان للسياسات طواويسها، ايضا)، لكني اتحدث عن اناس لم ينتظروا شيئا من السلطة ومارسوا بأنفسهم عملية التغيير في الواقع فيما قدروا عليه.
لم يكترثوا بالطوارئ التي استهدفت تشديد القبضة على المجتمع واطلاق يد السلطة لتتحكم في مصيره وتعبث به.لكنهم من جانبهم بادروا الى اعلان «طوارئ» من نوع آخر، لهدف أشرف وأنبل.
ذلك انهم استنهضوا همتهم واختاروا مفاصلة أهل الاهواء والاضواء، وانصرفوا الى صناعة احلامهم بأيديهم.لم ينتظروا خبراً في صحف الصباح، ولا صورة على شاشة التلفزيون، ولا شيئا من جوائز الدولة وعطاياها التي تتقاسمها شلل المنتفعين والمهللين.
اتحدث عن اولئك النفر من الشرفاء المجهولين، الذين اختاروا ان يعيشوا مع الفقراء ويأخذوا بأيديهم، تاركين طواويس المدينة يسبحون في اضوائها فرحين بما أوتوا.اولئك الذين ظلوا مهجوسين بالغرس والزرع دون ان ينتظروا من أحد جزاء ولا شكورا.تركوا للطواويس التيه والمجد، وقعدوا بعيدا في الظل ينسجون الحلم ويبنون في هدوء، متخذين من مثابرة النمل وتواضعه نموذجا ومثلا اعلا.
(2)في صنعاء سمعت لاول مرة اسم الدكتور محمد غنيم ومركز الكلى الذي اقامه في مدينة المنصورة.شعرت بالخجل والاعتزاز عندما حدثني عنهما بانبهار شديد صديق كان شقيقا لاحد مرضاه.اذ لم يخطر على بالي ان يكون في مصر صرح طبي بالتميز الذي سمعت به.
وطوال السنوات العشر الاخيرة ظللت اتابع اداء الرجل الذي وقف وراء ذلك العمل الكبير.وكان اكثر ما قدرته فيه، فضلا عن مكانته العلمية الرفيعة، عزوفه عن الاضواء وحرصه على ان يؤدي رسالته الجليلة في صمت.
ولا اعرف كيف قاوم ذلك العالِم الزاهد فتنة الشهرة والثراء التي استسلم لها ولهث وراءها غيره، وكيف انه قرر ان يقيم صرحه الطبي في قلب الدلتا بعيدا عن جاذبية القاهرة واغراءاتها.
كذلك سمعت في الفترة ذاتها باسم «لجنة الاغاثة» في نقابة الاطباء، مرة في السودان واخرى في البوسنة وثالثة في اذربيجان.وعلى الرغم من ان اسمها ليس مألوفا في مصر، سواء لان القائمين عليها آثروا اثبات الحضور في ارض الواقع باكثر من حضورهم في وسائل الاعلام، او لان اكثر نشاطها موجه الى الخارج، فانني وجدت في اداء تلك اللجنة نموذجا آخر للذين نذروا انفسهم للتفاني في اغاثة الفقراء والملهوفين وتوظيف المعرفة في الخدمة المباشرة للناس.
اما الذي فعله الدكتور مجدي يعقوب فقد كان مدهشا حقا.اذ فاجأنا ذلك الجراح النابه الذي هاجر من مصر وذاع صيته في انجلترا، حتى منحته الملكة لقب «سير»، بانه قرر اقامة مركز لجراحة القلب في اقصى صعيد مصر.وكأنه حين اختار اسوان فانه اراد ان يعمل في ابعد نقطة عن اضواء القاهرة، وان يعطي لغيره درساً عملياً في الوفاء والمسؤلية.
ان بعضا من هؤلاء النابهين المهاجرين يأتون الى مصر للسياحة حينا، ولاعطائنا النصائح والمواعظ حينا اخر، وللظهور في برامج التلفزيون وحضور الحفلات والمنتديات في حين ثالثة.
لكن الدكتور مجدي يعقوب عزف عن كل ذلك.وبدا كأنه نسيج وحده.فلم يكتف باقامة الصرح الطبي، فحسب، ولكن النموذج النبيل الذي قدمه، شجع آخرين من العلماء المصريين المهاجرين على الانضمام اليه، والاسهام فيما يقدمه المركز من خدمات.
علمت ان المركز يجري 600 عملية قلب مفتوح بالمجان سنوياً.منها 300 عملية للاطفال (لاحظ ان العملية في الظروف العادية تتكلف عدة الوف من الجنيهات).ذلك بالاضافة الى دوره في البحوث والتدريس وتقديم الخدمات الصحية المتميزة لمرضى القلب في مصر والدول العربية والافريقية.
اذ خلال الاشهر الماضية اجرى المركز 240 عملية جراحية مجانية، 50%منها للاطفال من مختلف محافظات مصر، وبعض الدول الاخرى.علمت ايضا ان المركز استضاف فريقا طبيا مصريا- كنديا، اجرى خبراؤه 70 عملية جراحية.ولايزال يؤدي رسالته النبيلة قانعا بالصمت وراضيا بالظل.
(3)في الاسبوع الماضي عادت الابتسامات الى وجوه اهالي قرية كفر العرب بمحافظة دمياط، التي كان الحزن قد خيم عليها خلال السنوات الاخيرة، بعدما ضاقت عليهم ابواب الرزق، وبدا كان الدنيا اسودت في وجوههم.
ذلك ان اهالي القرية التي اشتهرت بتربية الماشية وتصنيع الاجبان ادركوا ان اسعار الاعلاف زادت بحيث تجاوزت حدود احتمالهم.فما كان من المربيين الا ان اتجهوا الى التخلص من قطعان الماشية بالذبح.وادى ذلك الى اغلاق نصف مصانع منتجات الالبان في القرية.
لكن ازمتهم بدات في الحل بعدما نجح بعض الباحثين في تصنيع علف جديد للماشية بجودة عالية، من البواقي الزراعية في القرية التي كانت تحرق او تُلقى كمهملات في كل موسم.
هذا الجهد وراءه قصة غريبة ومدهشة ايضا، ابطالها مجموعة من الباحثين المغمورين الذين اختاروا منذ سنوات ان يحاربوا الفقر في معاقله، وبايدي الفقراء انفسهم، فشمروا عن سواعدهم واستخدموا معارفهم العملية وخبراتهم لحفر مسار جديد للتفكير والتطبيق، وبدأوا رحتلهم منذ نحو عشرين عاما.صحيح انهم لم يغيروا شيئا في اوضاع المجتمع المصري، لكنهم زرعوا «فسائل» للامل في بعض انحاء مصر، والتزموا بنهج النمل في التحرك والبناء.
الفكرة المحورية في مشروعهم كالتالي:
ان مصر بلد زراعي في الاساس، وريفها هو الاكثر معاناة من الفقر والتخلف والبطالة، والزراعة لها مخلفاتها التي تهمل وتحرق وتتحول الى نقمة احياناً، على الرغم من انها تشكل ثروة لمن يعرف قيمتها.ولانهم يعرفون جيدا قيمة تلك الثروة، فقد اتجهوا الى تصنيع البواقي الزراعية، منطلقين من انها تمثل شريانا للانعاش الاقتصادي في مصر الاخرى.
في دراستهم المرجعية وجدوا ان البواقي الزراعية في مصر تقدر سنوياً بحوالي 72مليون طن كاحطاب (حطب الذرة والقطن) او عروش (بنجر السكر والطماطم والبطاطس) او قشر (القمح والارز)- وللعلم فان مصاص القصب وحده يقدر بحوالي 30 مليون طن.
اضف الى ذلك ان الفلاحين يلجأون عادة الى تشوين تلك البواقي في حواف الحقول تمهيدا للتخلص منها، بما يقتطع من الرقعة الزراعية نحو 88 الف فدان، كان من الممكن ان تزرع قمحا.
هؤلاء الباحثون المغمورون، الذين لم تعرف لهم أسماء ولم تر لهم صور، يجوبون ارجاء «مصر الاخرى» منذ بداية التسعينيات، باحثين عن الكيفية التي يمكن بها احياء الموات في القرى الفقيرة، بحيث يتحول اهلها من قاعدين خاملين الى منتجين، ومن يائسين الى فاعلين.
في عام 1993 اقاموا معرضا لتصنيع الواح خشب «الكونتر» من جريد النخيل.ونجحوا في اقناع سكان القرى الغنية بالنخيل بان الجريد الذي يجفف ويحرق يمكن ان يكون خامة لصناعة تدر عليهم دخلا طيبا، وتغنى عن استيراد خشب الكونتر من الخارج.
وحين نجحت تجاربهم وظهرت الواح الخشب الكونتر الى النور، فانهم حصلوا على شهادات بجودة المنتج من معهد بحوث الاخشاب في ميونيخ،
وحصلوا على جائزة من مؤتمر المواد الذي انعقد في ماسترخت بهولندا عام 1997.واقاموا معرضا لمشروعات منتجات المشربية (الارابيسك او الخرط العربي) في كل من محافظتي الوادي الجديد والفيوم.
ايضا في عام 2006 نجحوا في استخدام حطب القطن كمادة صناعية.واستطاعوا تشغيل احد مصانع الاسكندرية للخشب الحبيبي بذلك الحطب، بديلا لاخشاب الكازوارينا التي اشرفت كمياتها المتاحة على النضوب. من ثم، فبدلا من الحرق المكشوف للحطب المسبب للسحابة السوداء، فان ذلك الحطب اصبح له سعر وفائدة.
في عام 1998 نفذوا مشروعا لاستخدام نواتج تقليم أشجار الفاكهة بديلا للاخشاب المستوردة.ووظفوا في ذلك اخشاب 7 انواع من الفاكهة وصنعوا منها اخشابا تنافس خواص خشب الزان الذي تستورده مصر بما قيمته 4 مليارات جنيه سنوياً.
في عام 2006 قاموا بتجربة ناجحة اخرى.ذهبوا الى بلدة شماس بمرسى مطروح، التي تعد واحدة من افقر عشر قرى في مصر، ووجدوا ان التين فيها بلا ثمن لكثرته، ولاحظوا ان الفائض منه يلقى في الشوارع، فرتبوا لبعض سيدات القرية بالتعاون مع كلية الزراعة بجامعة الاسكندرية، كيف يمكن ان يتحول التين الى مربى.واستطاعت ثلاث سيدات تصنيع 15 طن مربى في شهرين، حققت المواصفات العالمية في الغذاء.
ذلك كله لم يشعر او يسمع به احد.لكن فريق النمل الذي يقوده الدكتور حامد الموصلي الاستاذ غير المتفرغ بهندسة عين شمس لم يتوقف عن السفر مع مساعديه الى قرى الفقراء ومحاولة استخراج الامل من البؤس واليأس.وهم يحلمون بنشر فكرة تصنيع البواقي الزراعية (البيو فيبرز) التي تستثمر تلك الثروة المجهولة في العديد من الصناعات المهمة التي تشكل نقلة مهمة ليس فقط في حياة القرى الفقيرة، ولكن ايضا في مسار النهوض بالمجتمع وتطوره.
(4)اكتشفت ان الجمعية الشرعية في مصر تقف على راس جيوش النمل التي ما برحت تبنى في صمت منذ مائة عام.ونبهني الى ذلك ان القائمين عليها اقاموا احتفالا متواضعا بهذه المناسبة في مقرهم بالقاهرة، تجاهلته وسائل الاعلام، ونشرت وقائعه مجلتهم «التباين» في عددها الشهري الاخير.
واثار انتباهي في انشطة الجمعية حجم الدور التنموي الذي تقوم به، جنبا الى جنب مع دورها الدعوي التقليدي.
بدا ذلك الدور التنموي مفاجئا ومدهشا.فهم يكفلون 560 الف يتيم في مصر، وينفذون من اموال الزكاة مشروعا للمراكز الطبية المتخصصة، التي لا تعالج الفقراء فحسب، ولكن غير القادرين ايضا، بغير تمييز بين المسلمين والمسيحيين.(جلسة الكيماوي الواحدة لمرضى السرطان تتكلف 5 آلاف جنيه).وتقدم خدماتها يوميا لمائة مريض بالعلاج الاشعاعي و30 مريضا بالكيماوي.والاخيرون يكلفون الجمعية ما يجاوز 5 ملايين جنيه كل شهر.
ومن خلال لجنة الاغاثة بنقابة الاطباء، فانهم اوصلوا المعونات الى العديد من دول افريقيا وآسيا.في ذات الوقت فانهم يكفلون عشرة آلاف طالب وافد، فيقدمون لهم رواتب شهرية الى جانب الاقامة الكاملة والرعاية الصحية، ويعلمونهم العربية.وقد حصل 50 واحدا منهم على شهادة الدكتوراه.
قائمة العطاء طويلة.فلديهم مشروع لتنمية رؤوس الماعز، التي يتم توزيعها على الفقراء والمعدمين (لديهم 82 وحدة تستوعب الواحدة 215 راسا).كما انشات الجمعية 50 محطة لمياه الشرب، تكلفت الواحدة 150 ألف جنيه، وتغذي 12 الف نسمة.
لست أشك في أن مصر تحفل بمثل هؤلاء البنائين العظام الذين لم ينتظروا منا تشجعيا ولا تصفيقا، فمن واجبنا ان نسجل أسماءهم بحروف من نور، وان نقول لهم شكرا،
ليس فقط لما يعملونه، ولكن ايضا لانهم ذكرونا بانه لايزال فينا خير كثير، يمنحنا شعاع امل وسط الظلمة التي نغرق فيها.