19 أكتوبر 2011

فقط دقيقة



بقلم :محمد عبد الوهاب جسري 

كنت أقف في دوري على شباك التذاكر لأشتري بطاقة سفر في الحافلة إلى مدينة أخرى تبعد حوالي 330 كم، وكانت في الدورأمامي سيدة ستينية قد وصلت إلى شباك التذاكر وطال تحاورها مع الموظفة التي قالت لها في النهاية: الناس ينتظرون، أرجوكِ تنحّي جانباً. فتراجعت المرأة خطوة واحدة لتفسح لي المجال، وقبل أن أشتري بطاقتي سألت الموظفة عن المشكلة، فقالت لي بأن هذه المرأة معها ثمن بطاقة السفر وليس معها يورو واحد قيمة بطاقة دخول المحطة، وتريد أن تنتظر الحافلة خارج المحطة وهذا ممنوع. قلتُ لها: هذا يورو وأعطها البطاقة. وتراجعتُ قليلاً لأعطيُ السيدة مجال لتعود إلى دورها بعد أن نادتها الموظفة مجدداً.
 
اشترت السيدة بطاقتها ووقفت جانباً وكأنها تنتظرني، فتوقعت أنها تريد أن تشكرني، إلا أنها لم تفعل، بل انتظرتْ لتطمئن إلى أنني اشتريت بطاقتي وسأتوجه إلى ساحة الانطلاق، فقالت لي بلهجة أمر: احمل هذه... وأشارت إلى حقيبتها.
 
كان الأمر غريباً جداً بالنسبة لهؤلاء الناس الذين يتعاملون بلباقة لا مثيل لها.
بدون تفكير حملت لها حقيبتها واتجهنا سوية إلى الحافلة، ومن الطبيعي أن يكون مقعدي بجانبها لأنها كانت قبلي تماماً في الدور.
 
حاولت أن أجلس جهة النافذة لأتمتع بمنظر تساقط الثلج الذي بدأ منذ ساعة! لكن السيدة منعتني و جلستْ هي من جهة النافذة دون أن تنطق بحرف، فرحتُ أنظر أمامي ولا أعيرها اهتماماً، إلى أن التفتتْ إلي وراحت تحدق في  وجهي، وطالت التفاتتها نحوي دون أن تنطق بكلمة واحدة  وأنا مستمر أنظر أمامي  حتى بدأت أتضايق من نظراتها التي أشعر بها، فالتفتُ إليها لأسألها:
 
عندها تبسمتْ قائلة: كنت أختبر مدى صبرك وتحملك.
  - صبري على ماذا؟
  - على قلة ذوقي. أعرفُ تماماً بماذا كنتَ تفكر.
  - لا أظنك تعرفين ،وليس مهماً لي أن تعرفي.
  - حسناً، سأخبرك لاحقاً، لكن بالي مشغول بكيف أرد دينك.
  -  لا يستحق الأمر اهتمامك فلا تشغلي بالك.
  -  لكن لدي شيئا سأبيعك إياه الآن ، فهل تشتريه أم أعرضه على غيرك؟
  - هل تريديني أن أشتريه قبل أن أعرف ما هو؟
  - إنه حكمة! أعطني يورو واحداً لأعطيك الحكمة.
  - وهل ستعيدين لي اليورو إن لم تعجبني الحكمة؟
 - لا، فالكلام بعد أن تسمعه لا أستطيع استرجاعه، ثم إن اليورو الواحد يلزمني لأنني أريد أن أرد به دَيني.
  أخرجتُ من جيبي اليورو وناولته إياها وأنا أمعن النظر في قسمات وجهها. لا زالت عيناها جميلتين تلمعان كبريق عيني شابة في مقتبل العمر، وأنفها الدقيق مع عينيها ينبئون عن ذكاء ثعلبي . مظهرها يدل على أنها سيدة متعلمة، لكني لم أرغب في أن أسألها عن شيء، فقد كنت  على يقين أنها ستحدثني عن نفسها فرحلتنا لا زالت في بدايتها.
  لكنها أغلقت أصابعها على هذه القطعة النقدية التي فرحت بها كما يفرح الأطفال وقالت: أنا الآن متقاعدة، كنت أعمل مدرّسة لمادة الفلسفة، جئت من مدينتي لأرافق إحدى صديقاتي إلى المطار. أنفقتُ كل ما كان معي إلا ما يكفي لأعود إلى بيتي، إلا أن سائق التاكسي أحرجني وأخذ مني يورو واحد زيادة، فقلت في نفسي سأنتظر الحافلة خارج المحطة، ولم أكن أدري أنه ممنوع. أحببتُ أن أشكرك بطريقة أخرى بعدما رأيت شهامتك، حيث دفعت عني دون أن أطلب منك. الموضوع ليس مادياً. ستقول لي بأن المبلغ بسيط، سأرد عليك بأنك سارعت لفعل الخير ودونما تفكير.
  قاطعتُ المرأة مبتسماً: أتوقع بأنك ستحكي لي قصة حياتك، لكن أين البضاعة التي اشتريتُها منكِ؟ أين الحكمة؟
  ردت:
"فقط دقيقة".
أجبت: - سأنتظر دقيقة.
  - لا.. لا.. لا تنتظر. "فقط دقيقة".  هذه هي الحكمة.
  -  لم ا فهم شيئا!.
  - لعلك تعتقد أنك تعرضتَ لعملية احتيال؟
  -  ربما !!.
  - سأشرح لك: "فقط دقيقة". ، لا تنسَ هذه الكلمة. في كل أمر تريد أن تتخذ فيه قراراً، عندما تفكر به وعندما تصل إلى لحظة اتخاذ القرار أعطِ نفسك دقيقة إضافية، ستين ثانية. هل تعلم كم من المعلومات يستطيع دماغك أن يعالج خلال ستين ثانية؟ في هذه الدقيقة التي ستمنحها لنفسك قبل إصدار قرارك قد تغير أمورا كثيرة، ولكن بشرط.
  - وما هو الشرط؟
-       أن تتجرد من نفسك، وتُضع في عقلك وفي قلبك جميع القيم الإنسانية والمثل الأخلاقية دفعة واحدة، وتعالجها معالجة موضوعية ودون تحيز، فمثلاً: إن كنت قد قررت بأنك صاحب حق وأن الآخر قد ظلمك فخلال هذه الدقيقة وعندما تتجرد عن نفسك ربما تكتشف بأن الطرف الآخر لديه حق أيضاً، أو جزء منه، وعندها قد تغير قرارك تجاهه. إن كنت نويت أن تعاقب شخصاً ما فإنك خلال هذه الدقيقة بإمكانك أن تجد له عذراً فتخفف عنه العقوبة أو تمتنع عن معاقبته وتسامحه نهائياً.
-       دقيقة واحدة بإمكانها أن تجعلك تعدل عن اتخاذ خطوة مصيرية في حياتك لطالما اعتقدت أنها هي الخطوة السليمة، في حين أنها قد تكون كارثية. دقيقة واحدة ربما تجعلك أكثر تمسكاً بإنسانيتك وأكثر بعداً عن هواك. دقيقة واحدة قد تغير مجرى حياتك وحياة غيرك، وإن كنت من المسؤولين فإنها قد تغير مجرى حياة قوم بأكملهم... هل تعلم أن كل ما شرحته لك عن الدقيقة الواحدة لم يستغرق أكثر من دقيقة واحدة؟
 
- صحيح، وأنا قبلتُ بعدالة هذه الصفقة وحلال عليكِ اليورو.
  - تفضل، أنا الآن أردُّ لك الدين وأعيد لك ما دفعته عني عند شباك التذاكر. والآن أشكرك كل الشكر على ما فعلته لأجلي.
  أعادت لي قطعة اليورو ثم تبسمتُ في وجهها لأنتبه وهي تأخذ رأسي بيدها وتقبل جبيني قائلة: هل تعلم أنه كان بالإمكان أن أنتظر ساعات دون حل لمشكلتي، فالآخرون لم يكونوا ليدروا ما هي مشكلتي، وأنا ما كنتُ لأستطيع أن أطلب واحد يورو من أحد.
  - حسناً، وماذا ستبيعيني لو أعطيتك مئة يورو؟
  - سأعتبره مهراً وسأقبل بك زوجاً.
  علتْ ضحكتُنا في الحافلة وأنا أريد النهوض ومغادرة مقعدي وهي تمسك بيدي قائلة: اجلس، فزوجي متمسك بي وليس له مزاج أن يموت قريباً!
  وأنا أقول لها: "فقط دقيقة".  ... "فقط دقيقة".
  لم أتوقع بأن الزمن سيمر بتلك السرعة. كانت تلك  الرحلة من أكثر رحلاتي سعادة، حتى إني شعرت بنوع من الحزن عندما غادرتْ الحافلة عندما وصلنا إلى مدينتها  منتصف الطريق تقريباً.
  قبل ربع ساعة من وصولها حاولتْ أن تتصل من جوالها بابنها كي يأتي إلى المحطة ليأخذها، ثم التفتتْ إليّ قائلة: على ما يبدو أنه ليس عندي رصيد. فأعطيتها جوالي لتتصل. المفاجأة أنني بعد مغادرتها للحافلة بربع ساعة تقريباً استلمتُ رسالتين على الجوال، الأولى تفيد بأن هناك من دفع لي رصيداً بمبلغ يزيد عن 10 يورو، والثانية منها تقول فيها: كان عندي رصيد في هاتفي لكنني احتلتُ عليك لأعرف رقم هاتفك فأجزيكَ على حسن فعلتك. إن شئت احتفظ برقمي، وإن زرت مدينتي فاعلم بأن لك فيها أمّاً ستستقبلك. فرددتُ عليها برسالة قلت فيها: عندما نظرتُ إلى عينيك خطر ببالي أنها عيون ثعلبية لكنني لم أتجرأ أن أقولها لك، أتمنى أن تجمعنا الأيام ثانية، أشكركِ على الحكمة واعلمي بأنني سأبيعها بمبلغ أكبر بكثير.
 
"فقط دقيقة". ... حكمة أعرضها للبيع، فمن يشتريها مني في زمن نهدر فيه الكثير.. الكثير من الساعات دون فائدة؟